الهجرة دروس وفوائد


بسم الله الرحمن الرحيم

20/ عظم دور المرأة في البناء والدعوة: ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة، وأختها أسماء - رضي الله عنهما - حيث كانتا نعم المعين والناصر في أمر الهجرةº فلم يُخَذِّلا أباهما مع علمهما بخطر المغامرة التي سيقوم بها، بل لقد كان دورهما أعظم من ذلكº حيث حفظتا سر الرّحلة، وجهزتا ما تحتاجه الرحلة تجهيزاً كاملاً، ولقد قطعت أسماء قطعة من نطاقها، فأوكت به الجراب، وقطعت الأخرى وصيَّرتها عصاماً لَفَمِ القِربة، فلذلك سميت ذات النطاقين.

وفي هذا الموقف ما يثبت حاجة الدعوة إلى النساء، فهن أرق عاطفة، وأسمح نفساً، وأطيب قلباً.

ثم إن المرأة إذا صلحت أصلحت زوجها، وبيتها وأبناءها، وإخوتها، فينشأ جيل مُؤثِرٌ للعفة والخلق والطهارة.

وفي هذا ـ أيضاً ـ درس للمرأة المسلمة وهو أن تبذل وسعها في سبيل نشر الخير، ونصرة الحق، وأن تكون معينة لزوجها ووالدها وإخوانها وأبناءها على الدعـوة إلى الله ولو أدى ذلك إلى حرمانها من بعض حقوقهاº فمصلحة الأمة أهم، وما عند الله خير وأبقى.

 

21/ عظم دور الشباب في نصرة الحـق: ويتجـلى ذلك في ما قام به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عندما نام في مضجع النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما همَّ بالهجرةº فضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والبطولة.

وكذلك ما قام به عبد الله بن أبي بكرº فقد أمره والده أن يتسمع ما تقوله قريش في الرسول وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك من أخبار، وأمر أبو بكر عامر بن فهيرة ـ مولاه ـ أن يرعى غنمه نهاره، ثم يُرِيحَها إذا أمسى في الغار، فكان عبد الله بن أبي بكر في قريش يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن الرسول وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى ويقص عليهما ما علم، وكان عامر في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر، فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله من عندهما إلى مكة أتبع عامر أثره بالغنم يُعَفِّي عليه، وتلك هي الحيطة البالغة.

ففي موقف عبد الله بن أبي بكر ما يثبت أثر الشباب في نجاح الدعوة ونصرة الإسلام.

وإذا تأملت السيرة رأيت أن أكثر الصحابة كانوا من الشباب الذين حملوا لواء الدعوة، واستعذبوا من أجلها الموت والعذاب.

وهذا درس عظيم يبين لنا أن الشباب هم عماد الأمة، وإذا وجهوا وجهة صحيحة على نهج الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، ثم أُعلِيت هِمَمَهُم، ورفعوا عن سفاسف الأمور ـ كانوا مشاعل هدى، ومصابيح دجى.

 

22/ حصول الأُخوَّة وذوبان العصبيات: فمن أعظم حسنات الهجرة ما قام به الرسول - عليه الصلاة والسلام - من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومعنى هذا ذوبان عصبيات الجاهلية، فلا حمِيَّة إلا للإسلام، ولا ولاء إلا له، فتسقط بذلك فوارق النسب، واللون، والجنس، والترابº فلا يتأخر أحد، ولا يتقدم إلا بتقواه ومروءته.

وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخوة عَقداً نافذاً، لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال، لا تحيةً تثرثر بها الألسنة، ولا يقوم بها أثر.

وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.

ولقد حرص الأنصار، على الحفاوة بإخوانهم المهاجرينº فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة.

ولقد قدَّر المهاجرون هذا البذل الخالصº فما استغلوه، ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجهون به إلى العمل الحر الشريف.

ولا يخفى ما لهذا الإخاء من دورٍ, في البناء والرقي والتعاون.

ويستفاد من هذا الدرس أن الأمة الإسلامية لا بُدَّ أن تجتمع على أخوة الإسلام، وعلى كتاب الله وسنة رسوله، ونهج الأسلاف الكرام، وإلا أصبحت مفككة متناثرة لا يُهاب جنابها، ولا تُسمع كلمتُها.

 

23/ إصلاح العقائد الباطلة والسلوك المنحرف، والتربية على العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة: فلقد كان العالم يتخبط في ظلمات بعضها فوق بعض: ظلمة من الجهل، وظلمة من دناسة الأخلاق، وظلمة من منكر الأعمال، فبعث الله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من هذه الظلمات إلى نور يسعى بين أيديهم في الحياة الأولى، ويهديهم إلى السعادة في الحياة الأخرىº فلقد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب عظيم مُصلحٍ, للعقائد والأخلاق والأعمال، ومنظم لجميع شؤون الحياة، فَتَدَبَّرَتهُ فئة قليلة واتخذته قائدَها المطاعَ، فكانت خير أمة جاهدت في الله وانتصرت، وغلب فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها.

واسألوا التاريخº فإن هذه الأمة قد استودعته من مآثرها الغُرِّ ما بَصُرَ بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء، فلقد جاهد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الجَهلَ، وشرٌّ الجهل عدمُ معرفة مبدع الكائنات وتركُ التوجه إليه بشتى القربات، وجاهد الأخلاق الرذيلةº فكرَّه للنفوس الجزع، والجبن، والبخل، والصَّغار، والكبر، والقسوة، والأثرة، وعلَّمها الصبر، فهان عليها كل عسير، وعلَّمها الشجاعةº فحقُرَ أمامها كلٌّ خطير، وعلمها الكرمº فجادت في سبيل الخير بكل نفيس، وعلمها العزةº فسمت إلى كل مقام مجيد، وعلمها التواضع فتألَّفت كلَّ ذي قلب سليم، وعلمها الرّحمةَ، والرّحمةُ رباط التآزر والتعاون على تكاليف الحياة، وعلمها الإيثَار، والإيثارُ من أقصى ما يبلغه الإنسان من مراتب الجود.

فهذا الدين أحدث تحولاً عاماً في حياة الفرد والجماعة، بحيث تغير سلوك الأفراد اليومي، وعاداتهم المتأصلة كما تغيرت نظرتهم إلى الكون والحياة والحكم على الأشياء.

وهذه المعاني إنما تجلت أعظم التجلي بعد الهجرة النبوية الشريفة المباركة.

ونحن اليوم محتاجون ـ من معاني الهجرة وأهدافها وحكمها ـ إلى ما نصلح به ما فسد من عقائد المسلمين، وإلى أن ننخلع في بيوتنا عن الآداب التي تخالف الإسلام، وأن نُعيد إلى هذه البيوت الصدق، والصراحة، والنبل، والاستقامة، والاعتدال، والتواضع، والعزة، والكرم، والتعاون على الخير، إلى غير ذلك من المعاني الساميةº فالبيت الإسلامي وطن، بل هو دولة إسلامية، وقبل أن نبدأ في علاج الأمة يجب أن نبدأ بالأقرب فالأقربº فنبدأ في بيوتنا، فنهاجر نحن ومن فيها إلى ما يحبه الله، وننخلع عن كل ما لا يرضيه - عز وجل - ثم نتحرى في مجتمعاتنا أنظمة الإسلام وآدابه، ونهجر كل ما خالفها مما اقتبسناه من غيرنا، وخَذَلنا به مقاصد الإسلام، فضيَّعنا أغراضه الجوهرية.

وإذا أخذنا بهذه التربية، وتأصَّلت في أذواقنا وميولنا، وتَعَوَّدنَا العمل بها في شتى الميادين ـ لم تلبث أوطان المسلمين أن تتحول من أوطان عاصية لله إلى أوطان مطيعة لله، ومن أوطان تسود فيها الأنظمة التي تسخط الله إلى أوطان تسود فيها الأنظمة التي ترضي الله، فيكون لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مِثلُ الآثار التي كانت لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأولين.

قال - عليه الصلاة والسلام -: \" المهاجر من هجر السيئات \"، وقال: \" المهاجر من هجر الخطايا والذنوب \".

ولما قيل له: ما أفضل الهجرة؟ قال: \" من هجر ما حرَّم الله \".

وأخيراً فإن دروس الهجرة وفوائدها يقصر دونها العدº فمن أراد التفصيل والزيادة فليراجع حديث الهجرة في كتب السيرة النبوية، وليراجع الكتب التي تناولت الهجرة بشيء من البسط والاستجلاء، مثل كتاب \" محمد رسول الله وخاتم النبيين \" للشيخ محمد الخضر حسين، و \" السيرة النبوية دروس وعبر \" للدكتور مصطفى السباعي، و \" مع الرعيل الأول \" للشيخ محب الدين الخطيب وغيرها من الكتب.

وفي الختام أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا حسن الإقتداء والإهتداء بنبينا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام -، والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply