النبي كأنك تراه : أهمية الأخلاق


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أيها الأحبة في الله، قال الله جلّ شأنه وتقدّست أسماؤه: وَرَبٌّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ [القصص: 68]. فربّنا جلّ جلاله هو المتصرّف بالخلق والتدبير والتقدير، فيخلق ما يشاء ومَن يشاء، ويختار مِن خلقه ما يشاء، ويصطفي مَن يشاء، فليس لأحد اختيار ولا تصرّف في مُلكه - سبحانه - جلّ في علاه، يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: \"فالله الذي يقسم الفضل بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح، وهو الذي يرفع بعض الناس فوق بعض درجات\" اهـ.

فالله قسم الناس فمنهم السيد والمَسُود، ومنهم الحاكم والمحكوم، وجعل التفاضُل حتى بين الرسل، قال - تعالى -: \" تِلكَ الرٌّسُلُ فَضَّلنَا بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ, مِنهُم مَن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعضَهُم دَرَجَاتٍ, \" [البقرة: 253].

وكان من أمره - سبحانه - اختيار محمد وتفضيله على العالمين، فخصّه بأفضل الكتب وأكملها، وجعل شريعته الخاتمة والمُهَيمِنة على الشرائع كلها، قال - تعالى -: \" وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيمِنًا عَلَيهِ \" [المائدة: 48].

وجعل الله - تعالى - مدار شريعة محمد على تزكية النفوس وتطهيرها وإصلاح الأخلاق وتنقيتها، ولهذا صح عنه قوله: ((إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق)) أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصحّحه الألباني. فكأنّ النبي حَصَر بعثته على تقويم الأخلاق وإتمام مكارمها، ولذلك فإن المتأمل في أركان الإسلام يجد أنها جميعًا تدعو إلى تقويم الأخلاق وتهذيب الطِّباع واستقامة السلوك، فالصلاة تُبعِد المسلم عن الرذائل، وتطهّره من سوء القول والعمل، قال - تعالى -: \" إِنَّ الصَّلاةَ تَنهَى عَنِ الفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ\" [العنكبوت: 45]، والزكاة ليست ضريبة تُدفَع أو مالاً يُبذَل مجردة عن المعاني والحكم، إنما هي لتطهير النفس وتزكيتها، قال - تعالى -: \" خُذ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا \" [التوبة: 103]، والصوم ليس حرمانًا من الطعام والشراب والنكاح، بل هو خطوة إلى كفّ النفس عن شهواتها المحظورة ونَزَوَاتها المنكورة، قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري، والحج ليس رحلة خالية من المعاني الأخلاقية، إنما هو سبيل إلى إبعاد النفس عن سَفَاسِف الأمور، قال - تعالى -: \" الحَجٌّ أَشهُرٌ مَعلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِّ \" [البقرة: 197].

فهذه أركان الإسلام العظيمة وعباداته الجليلة، ليست طقوسًا مُبهَمَة، ولا أعمالاً مجردة لا معنى لها، بل هي في مجملها لها صِلات وثيقة تعمل في نَسَقٍ, واحد يكمل به بناء الأخلاق الشامخ، إنها عبادات مختلفة في مظهرها، ولكنها جميعًا تلتقي عند الغاية التي بُعِث محمد من أجلها: ((إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق)).

معاشر المؤمنين، إن المظهر وإن كان مطلوبًا في الإسلام ولكنه لا يُغنِي عن الجوهر، إن تقويم السلوك الظاهر فقط والحرص على العبادات والشعائر مجردة من معانيها وحكمها بناءٌ على غير أساس، وكل بناء على غير أساس عُرضَة للانهيار كما قال: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)) أخرجه مسلم، فما فائدة الصلاة إذا كان المصلي بذيء اللسان فاحش الكلام سيئ الخلق؟! وما فائدة الزكاة إذا كان المزكّي يأكل أموال الناس بالباطل ويماطل في حقوقهم؟! وما فائدة الحج إذا كان الحاج يكذب في حديثه ويخلف وعده ويخون أمانته؟! وصدق الرسول حينما قال: ((إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق)).

لقد بُعِث نبينا ليصدّق ما يدعو إليه بعمله، فكانت أخلاقه عنوانًا لدعوته وبرهانًا على نبوته وتبيانًا لصدق رسالته، ولهذا أثنى الله عليه بثناء يتردّد في سمع الوجود، ويتلوه الملأ الأعلى والمؤمنون، ولا تُنسِيه سَرمَدِيّة الزمان، قال - تعالى -: \" وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ, عَظِيمٍ, \" [القلم: 4]. وجاء في صحيح مسلم أن سعد بن هشام سأل أمَّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن خُلق النبي فقالت: أليس تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن. قال ابن كثير - رحمه الله -: \"صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سَجِيّة له وخُلُقًا تطبّعه، وترك طبعه الجِبِلّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه\".

كان عظيمَ الخلق بعد بعثته وقبل البعثة، فالمشركون لم يجدوا منه إلا أفضل الأخلاق، حتى لقبوه بالصادق الأمين، ولما فاجأه الوحي قال لزوجه خديجة - رضي الله عنها -: ((لقد خشيت على نفسي))، قالت: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًاº إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتُقرِي الضيف، وتعين على نوائب الدهر. رواه البخاري. ما ذكرته خديجة - رضي الله عنها - مآثر حسنة وأخلاق كريمة ومعاملات سامية تدفع الأذى عن صاحبها بإذن الله - تعالى -.

وأما بعد بعثته فزاد حلمه حلمًا وكرمه كرمًا وعظمته عظمة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.

وصف أمير الشعراء في هَمزِيّته المشهورة النبي قائلاً:

يا أيهـا الأُمّي حَسبـك رُتبةً *** في العلم أن دَانَت بك العلماءُ

 

يا مَن له الأخلاق ما تهوى العُلا *** منهـا ومـا يَتَعَشّقُ الـكُبراءُ

 

لو لم يقم دينٌ لقـامت وحدَها *** دينًـا تُضيء بنـوره الآنـاءُ

 

على هذه الأخلاق الحميدة تربّى الجيل الأول من الصحابة، إذ لم يكتف النبي لإصلاحهم بالتعاليم المرسلة أو بالأوامر والنواهي المجرّدة، بل أدّبهم بخلقه وهذّبهم بسلوكه، فتمثّلت فيهم صورة الإسلام المشرقة، حتى أصبحوا مصاحفَ تمشي على الأرض في أخلاقهم، وانتشروا في الدنيا، فرأى الناس فيهم نماذج فريدة من البشر، فدخلوا في دين الله أفواجًا، فتحوا البلاد، وقبل ذلك كسبوا قلوب العباد بسيرتهم العطرة قبل أن يصلوا إليها بجيوشهم، ونحن لا خير فينا إذا لم نَسِر على منوالهم ونتشبّه بهم.

 

فتَشَبّهوا إن لم تكونوا مثلَهم *** إنّ التشبٌّهَ بالكرام فَلاحُ

 

أيها الإخوة المؤمنون، إن المتأمل في أحاديث الحبيب محمد يجد أنها رفعت من منزلة الأخلاق الفاضلة وأصحابها، وجعلتها ميدان سَبق ليتنافس فيه المتنافسون، قال: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا، وخياركم خياركم لنسائهم)) رواه الترمذي بسند صحيح، وقال: ((أنا زعيم ـ ضامن ـ ببيت في رَبَض الجنة ـ أدناها ـ لمن ترك الجدال ولو كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) رواه أبو داود بسند صحيح. فهنيئًا لكم ـ يا أصحاب الأخلاق الحسنة ـ ببيت في أعلى الجنة.

وقال: ((إن أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا)) رواه الترمذي بسند صحيح، وقال: ((ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي بسند صحيح. وبيّن النبي أنّ صاحب الأخلاق الحسنه يدرك العابد الزاهد، فقال: ((إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) رواه الترمذي بسند صحيح.

إن حسن الخلق منحة ربّانية ومِنّة إلهية، لا يعطيها الله - عز وجل - إلا لمن يصطفيه ويحبّه، ولله درّ الشاعر حينما قال:

فالناس هذا حظٌّهُ مالٌ وذا *** عِلم وذاك مكـارم الأخلاقِ

فإذا رُزِقت خليقةً محمودة *** فقد اصطفاك مُقَسِّمُ الأرزاقِ

 

فالمال نعمة تحتاج إلى علم حتى ينفقه صاحبه فيما شرع، والعلم بحاجة إلى الأخلاق حتى ينفع صاحبه الأمة، وكما قيل:

فالمالُ إن تـدّخِرهُ مُحَصّنًا *** بالعلم كان نهـايةَ الإملاقِ

 

والعلم إن لَم تكتنفه شَمائلٌ *** تُعلِيهِ كـان مَطِيّة الإخفاقِ

 

لا تحسبنّ العلمَ ينفعُ وحدَهُ *** ما لَم يُتَوَّج ربٌّـهُ بخَـلاقِ

أيها الأحبة في الله، إننا في هذه الأيام وفي هذا الزمان أحوج ما نكون إلى الأخلاق الحسنة، عملاً وسلوكًا يتجَسّد في قولنا وفعلنا، وفي حِلِّنا وتِرحَالِنا، وفي عُسرِنا ويُسرِنا، وفي بيعنا وشرائنا، وفي عهودنا ووعودنا، وفي غضبنا ورضانا، مع أهلنا وأصحابنا، وخير مَن نتأسّى بأخلاقه ونقتفي آثاره ونقلّد أفعاله هو الحبيب محمد، وكما قال عنه شاعره حسّان:

إمامٌ لهم يهديهم الحقَّ جاهدًا *** مُعَلِّمُ صِدقٍ, وإن يطيعوه يَسعَدُوا

فإذا رُزِقَت خَلِيقةً محمودةً *** فقد اصطفاك مُقَسِّمُ الأرزاقِ

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه، إنه هو البرّ الغفور الرحيم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply