ماكان أحد أحب إلي من النبي صلى الله عليه وسلم


  

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكر الإمام الواقدي في مغازيه: أن مروان بن الحكم وكان أميرا على المدينة، قال لابن يامين اليهودي، كيف كان قتل بن الأشرف؟ قال ابن يامين: كان غدرا، ومحمد بن مسلمة - رضي الله عنه - جالس شيخ كبير، فقال: يا مروان أيُغدَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندك؟ والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله لا يؤوني وإياك سقف بيت إلا المسجد، وأما أنت يا ابن يامين فلله علي إن أُفلتَّ وقدرتُ عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك، فكان ابن يايمين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولاً ينظر محمد بن مسلمة، فإن كان في بعض ضياعه (أي في بعض عقاره) نزل فقضى حاجته ثم انصرف وإلا لم ينزل، فبينما محمد بن مسلمة في جنازة وابن يامين في البقيع، قام محمد بن مسلمة إلى جرائد رطبة من النخل، فلم يزل يضربه بها جريدة جريدة حتى كسّر ذلك الجريد على وجهه ورأسه ولم يترك به مصَحّا (أي من الصحة والعافية) ثم أرسله ولا طباخ به (أي قوة) ثم قال محمد بن مسلمة: والله لو قدرت على السيف لضربتك به\".

 

كيف كانوا يحبون نبيهم - صلى الله عليه وسلم -..؟

- سئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلك؟ قال: \"كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ\"

- ويقول عمرو بن العاص - رضي الله عنه - وهو في سياق الموت: \"ما كان أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه.

 

- وهذا خبيب - رضي الله عنه - عندما كان مأسوراً لدى قريش بمكة وأرادوا قتله فحملوه إلى الخشبة وأوثقوه رباطاً، ثم قالوا له: أرجع عن الإسلام نُخلِ سبيلك، قال: لا، واللهِ، قالوا: فتحب أن محمداً مكانك وأنت جالس في بيتك؟ قال: واللهِ ما أحب أن يُشاك محمد - صلى الله عليه وسلم - بشوكة، وأنا جالس في بيتي، فجعلوا يقولون: ارجع يا خبيب! قال: لا حتى قتلوه - رضي الله عنه - وأنشد يقول:

ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرع

وذاك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع

 

- وأحدهم يقول في المعركة: \"يا رسول الله: هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسنا بين يديك، لو استعرضت بنا البحر لخضناه، نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك\".

 

إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا *** كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا

 

- وعمر الفاروق يقول للعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن تسلم أحبُ إلي من أن يسلم الخطاب، لأن ذلك أحبَّ إلى رسول الله صلى الله وعليه وسلم.

هؤلاء هم الصحابة التي لا تكل الألسن من تِرداد سيرهم، ولا تمل الآذان من سماع أخبارهم، ولا تسعد العين إلا بالنظر والمطالعة فيما كُتب عن خصالهم وأخلاقهم، ولا ينشرح القلب ويزداد ثباتاً ويقيناً إلا بأخبار بلائهم وجهادهم، أولئك هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذين اختارهم الله لصحبة نبيه، هم أبر هذه الأمة قلوباً، وأصدقها حديثاً، وأعمقها عِلماً، وأقلها تكلفاً، وأكثرها بلاءً وجهاداً في سبيل الله، خُيِّروا بين الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، والأموال والتجارات والديار وبين الله ورسوله والجهاد في سبيله، فطرحوا ذلك كله وراءهم ظهرياً، واختاروا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والجهاد في سبيله.

إن محبة المعصوم - صلى الله عليه وسلم - عبادة قلبية وجدانية جليلة عظيمة وهي وربي من أعظم الفرائض (قُل إِن كَانَ آبَاؤُكُم وَأَبنَآؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ, فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتِيَ اللّهُ بِأَمرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].

يقول القاضي عياض - رحمه الله تعالى -في هذه الآية: \"فكفى بهذا حضا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها - صلى الله عليه وسلم - إذ قرّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله\".

إن محبة المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ليست قصصا تُروى، ولا كلمات تقال، ولا ترانيم تُغنى، محبته - صلى الله عليه وسلم - ليست دعوة باللسان، ولا هياما بالوجدان، وإنما هي طاعة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.

المحبة عمل بمنهج الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تتجلى في السلوك والأفعال والأقوال (قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران: 31].

إن محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - توجب التعظيم والإجلال والتوقير والاحترام، ولما سئل مالك بن أنس - رحمه الله تعالى -عن أيوب السختياني قال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضلَ منه، وقال: وحج أيوب حجتين فكنت أرمقه ولا أسمع منه غير أنه كان إذا ذُكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلالَه للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبت عنه، وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يتغير لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيدُ القراء، لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه.

إن محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - تكون بالقلب واللسان والجوارح، فتكون بالقلب اعتقادا بأن تقدم محبته على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين يقول: عبد الله بن هشام: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال له عمر يا رسول الله: لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك\"، فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"الآن يا عمر\". [رواه البخاري]

وقال - عليه الصلاة والسلام -: \"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين\". [رواه البخاري]

وأما المحبة باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير، وأما المحبة بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه وإعلاء كلماته ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه.

إن محبة المعصوم - صلى الله عليه وسلم - تستلزم الذب عنه والانتصار لسنته والاحتساب على من تطاول عليه، روى النسائي وأبو داود عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: \"إن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشتمه فأخذ المِغول (سيف قصير) فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"ألا اشهدوا أن دمها هدر\".

فتأمل ما قام به هذا الرجل، أعمى العين لكنه بصير القلب - رضي الله عنه - من الانتصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمع كونه أعمى وتلك المرأة أم ولده، إضافة إلى كونها رفيقة به وله منها ابنان في غاية الحسن والجمال مع ذلك كله فقد قدم محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - والذب عنه على سائر المحبوبات الدنيوية فرضي الله عنه وأرضاه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply