هدى النبي صلى الله عليه وسلم في المزاح والضحك


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

أولاً: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال: "نعم غير أني لا أقول إلا حقاً"(1).

وفي هذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له"(2).

 

ثانياً: البعد عن الإيذاء بالفعل: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والخَذفَ فإنها تكسر السن وتفقأ العين  ولا تنكي العدو"(3)، الخذف: هو أن يأخذ العصاة والنواة بين السبابتين ويرمي بها، تنكي: تقتل(4).

 

ثالثاً: تجنب الضحك فما يصدر عن الإنسان عفوياً لقول جابر -رضي الله عنه-: نهى -صلى الله عليه وسلم- "عن الضحك من الظرطة"(5).

 

رابعاً: النهي عن التعدي على ممتلكات الغير: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعباً أو جاداً"(6).

 

خامساً: قال ابن قدامه المقدسي -رحمه الله-: فقد اتفق في مزاحه -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أشياء:

أحدها: كونه حقاً.

والثاني: كونه مع النساء والصبيان ومن يحتاج إلى تأديبه من ضعفاء الرجال.

والثالث: كونه نادراً فلا ينبغي أن يحتج به من يريد الدوام عليه فإن حكم النادر ليس كحكم الدائم(7).

قال الشاعر(8):

أفد طبعك المكدود بالجد راحة *** تجم وعلله بشيء من المزح

ولكن إذا أعطيته المزح فليكن *** بمقدار ما يعطى الطعام من الملح

 

سادساً: والمزاح المباح بلسم لحياة الإنسان المسلم وتخفيف عن مصاعب الحياة ولو بطلاقة الوجه أو حسن الكلام، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"(9).

قال -سبحانه وتعالى- لنبيه: "وَلَو كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلبِ لانفَضٌّوا مِن حَولِكَ"(10) أي لو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- شديداً جافاً مع أصحابه آمراً لهم ناهياً على الدوام لكان حالهم أنهم تركوه ودعوته ولكنه كان مثالاً يحتذى به في كل أحواله ومعاملاته وسلوكه -صلى الله عليه وسلم-(11).

 

سابعاً: وما القصد بمزاحه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يقرب أصحابه إليه ويستميل قلوبهم فيحفظوا عنه ما يقول ويفهموا كل ما يريد ولكل مقام عنده مقال وما أحسن الجد في موعظة وما أجمل المزاح الذي لا تقع به إلا الألفة ولا يحصل به إلا الإيناس"(12).

 

ثامناً: كان -صلى الله عليه وسلم-: "طويل الصمت قليل الضحك"(13).

 

تاسعاً: كان أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين يعرفون مزحه وسروره من طلاقة وجهه وسمو روحه فعن كعب بن مالك -رضي الله عنه- قال: " كان -صلى الله عليه وسلم- إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر"(14).

 

عاشراً: كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب"(15).

 

الحادي عشر: كان جل ضحكه التبسم فعن عبد الله بن الحارث بن جزء -رضي الله عنه- أنه قال: "ما رأيت أحداَ أكثر تبسماً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"(16)، قال أبو ذر: فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه"(17).

وعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "ما حجبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مند أسلمت ولا رآني إلا ضحك" وفي رواية "إلا تبسم"(18) وكان يقول: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"(19).

 

الثاني عشر: ليس المقصود أن كل حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مرحاً وضحكاً ومزاحاً بل كان يبكي كثيراً ويضحك قليلاً ويقول: "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"(20).

 

الثالث عشر: بعضاً من مزاحه -صلى الله عليه وسلم-:

1-              مع أهله:

-       عن عائشة -رضي الله عنها- قالت قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال "ما هذا يا عائشة". قالت بناتي ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع فقال "ما هذا الذي أرى وسطهن" قالت فرس. قال: "وما هذا الذي عليه" قالت: جناحان قال: "فرس له جناحان" قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة قالت فضحك حتى رأيت نواجذه.(21).

السهوة: تشبه الرف أو الخزانة الصغيرة يوضع فيها الشيء.

-       عن عائشة قالت رجع إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول وارأساه. قال "بل أنا وارأساه" قال "وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك" قلت لكني أو لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه.(22).

ومن هديه -صلى الله عليه وسلم- في مراقبة مزاح أهله أنه يجمع بينهن فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "صنعت خزيراً (23)" وفي رواية......... فقلت لسوده: كلي فقالت لا أحبه فقلت: والله لتأكلين أو لألطخن به وجهك فقالت: والله ما أنا بذائقته فأخذت بيدي من الصحفة شيئاً منه ولطخت به وجهها ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس بيني وبينها فخفض لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئاً ولطخت به وجهي وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك فمر عمر فقال: يا عبد الله يا عبد الله فظن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سيدخل فقال: قوما فاغسلا وجوهكما، تقول عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"(24).

2-              مع الصحابة:

-       عن أنس -رضي الله عنه- أن رجلا استحمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أي سأله أن يحمله على دابة) فقال: إني حاملك على ولد ناقة فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ"(25).

-       وعن أنس -رضي الله عنه- أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً وكان يهدي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هدية من البادية فيجهزه النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن زاهراً باديتنا(26) ونحن حاضروه(27)، وكان يحبه وكان رجلاً دميماً فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره فقال: من هذا؟ أرسلني فالتفت فعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي -صلى الله عليه وسلم- حين عرفه فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: من يشتري هذا العبد؟ فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسداً فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لكن عند الله لست بكاسد أو قال: أنت عند الله غال"(28).

-       وعن الحسن -رضي الله عنه- قال: "أتت عجوز إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز قال: فولت تبكي فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهى عجوز إن الله -تعالى- يقول "إِنَّا أَنشَأنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلنَاهُنَّ أَبكَاراً * عُرُباً أَترَاباً"(29).

-       عن سفينة مولى أم سلمة -رضي الله عنها- قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر قال: فكان كلما أعيا رجل ألقى علي ثيابه ترساً أو سيفاً حتى حملت من ذلك شيئاً كثيراً قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنت سفينة"(30).

3-              مع الأطفال:

-       عن أنس -رضي الله عنه- قال: إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير يا أبا عمير ما فعل النغير؟ [31]، "وفقه هذا الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يمازح وفيه أنه كنى غلاماً صغيراً فقال له: يا أبا عمير، وفيه أنه لا بأس بأن يعطى الصبي الصير ليلعب به، وإنما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ لأنه كان له نغير يلعب به فمات فحزن الغلام عليه فمازحه النبي -صلى الله عليه وسلم-"(32).

-       وعن محمود بن الربيع قال: إني لأعقل مجة مجَّها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"[33]، وفي روايـة للبخـاري "في وجهه" قال النووي -رحمه الله-: "قال العلماء: المج طرح الماء من الفم بالتزريق وهذا في ملاطفة الصبيان وتأنيسهم وإكرام آبائهم بذلك وجواز المرح"(34).

-       عن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أبي وعليَّ قميص أصفر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "سَنَه سَنَه". قال عبد الله وهى بالحبشية حسنة. قالت فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرني أبي (أي زجرني) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "دعها". ثم قال رسـول الله "أبلي وأخلفي ثم أبلي وأخلفي، ثم أبلي وأخلفي". قـال عبد الله فبقيت حتى ذكر(35).

قال الحافظ ابن حجر معلقاً: والممازحة بالقول مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس، والتقبيل من جملة ذلك.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(1) الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

(2) أبو داود4992.

(3) الطبراني واللفظ له وعند البخاري ومسلم بلفظ: نهى.

(4) انظر الإيضاح ليعقوب الحمد ص 112-113.

(5) مسلم وأحمد في مسنده وفي صحيح الجامع 6896.

(6) البخاري في الأدب المفرد 180.

(7) الإيضاح ص 113.

(8) مختصر منهاج القاصدين 168.

(9) رواه البزار، انظر الإيضاح ص 19.

(10)                    آل عمران 159.

(11)                    الإيضاح 21.

(12)                    الإيضاح 54.

(13)                    صحيح الجامع الصغير 4822.

(14)                    البخاري ومسلم، الإيضاح 54.

(15)                    الصحيحة 506.

(16)                    الترمذي وقال الألباني حسن صحيح.

(17)                    الترمذي و مسلم، والنواجذ: جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس.

(18)                    الشيخان وغيرهما والرواية عند أحمد.

(19)                    الصحيحة 572.

(20)                    البخاري ومسلم.

(21)                    رواه أبو داود برقم 4934 والبخاري في الأدب المفرد برقم 283.

(22)                    رواه أحمد برقم 26659.

(23)                    الخزير: هو لحم يقطع صغاراً ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذروا عليه الدقيق فإن لم يكن لحم فهو عصيدة.

(24)                    رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن.

(25)                    أحمد وأبو داود والترمذي.

(26)                    أي يستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته.

(27)                    أي حاضرو المدينة له وهذا من حسن المعاملة.

(28)                    الترمذي وصحح إسناده الألباني.

(29)                    الواقعة 35-37 والحديث مرسل وقد حسنه الألباني لشواهده.

(30)                    الصحيحة 2959.

(31)                    الشيخان والترمذي.

(32)                    الأكمل من هدي النبي المرسل لخير الدين وانلي ص 612.

(33)                    مسلم واللفظ له والبخاري.

(34)                    الإيضاح 69.

(35)          البخاري 3071.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply