عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدايته ( 1 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

خطر لي أن أستضيء في حديثي عن عظمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدايته بآيات من الكتاب العزيز، وسبق إليَّ في التلاوة قوله -تعالى-: [لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ] (الأحزاب: 21) فرأيت في الآية مرعى خصيباً، ومجالاً فسيحاً.

ننظر في سيرة الرسول الأكرم، فنرى ما يبهر الأبصار وضاءة، ويملأ القلوب جلالة، فما شئتم من أخلاق عظيمة، وحكم غزيرة وهمم خطيرة، وأعمال جليلة فهو الرسول الذي بعثه الله -تعالى- لإبلاغ شريعته المحكمة، وجعله المثل الأعلى لأقصى ما يبلغه البشر في مراقي الكمال والعظمة.

ومن أجل هذا عهد الله إلى الناس كافة أن يقتدوا بسنته، ويعملوا للسعادة على سيرته فقال -تعالى-: [لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ].

تتناول الآية الكريمة كل ما يتحلى به - صلى الله عليه وسلم - من محاسن الشيم، أو يصدر منه على أنه شرع سماوي، إلا ما علم أنه مختص به كالوصال الذي هو إلحاق الليل بالنهار في الصيام، أما ما يفعله على وجه العادة أو الجبلّة دون أن يظهر فيه معنى للتشريع كالقيام والقعود في بعض الأمكنة أو الأزمنة، وكتركه أكل بعض الأطعمة مع تصريحه بإباحتها، فذلك ما لا يتناوله طلب التأسي به، وإن كان عبد الله بن عمر، لا يدع التأسي في مثل هذا ما أمكنه.

وقد يختلف أهل العلم في بعض ما يفعله - عليه الصلاة والسلام - فيذهب قوم إلى أنه فعله على وجه التشريع، ويذهب آخرون إلى أنه وقع على سبيل العادة.

ومثال هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل شعر رأسه إلى أذنيه، فقال بعض أهل العلم كأبي بكر ابن العربي: \"إنه من قبيل الهيئات المشروعةº فالحالق لشعر رأسه يعد تاركاً لما هو سنة\".

وقال كثير منهم: \"إنه من قبيل العادات التي يأخذه فيها كل قوم بما يجري في وطنهم أو زمانهم\".

ولو تفقهنا في هذه الآية الكريمة لانكشف عنا ظلام البدع والمحدثاتº ذلك أننا نتعرف سيرة رسول الله من طرق الروايات الصحيحة، ونتأسى بها في التقرب إلى الله فلا نتعدى حدودها بإحداث ما لا يصح أن يكون قربة في حال.

ليس في استطاعتي أن أفصل القول في السيرة النبوية التي أرشدت الآية إلى اقتفائها، وإنما أنبه على ناحيتين ترينا إحداهما كيف كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يطيع الخالق بإخلاص، وترينا أخراهما كيف كان يعامل الناس في نصح، ويسوسهم في حكمة ورفق.

نقلب الوجه في طريقته المثلى فنجده قد أسلم وجهه للخالق، واستقام على طاعته آناء الليل وأطراف النهار، فكان يتهجد في حجرته كما يتهجد في المسجد، ويعبد الله خالياً كما يعبده في جماعة، ويبتغي رضوانه في السر كما يبتغيه في العلانية.

ونحن نعلم أن مِن أمهات المؤمنين مَن كان أبوها مِن أشد الناس إيماناً به وإجلالاً لقدره، كعائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر ابن الخطاب، ومنهن من كان أبوها من أشد الناس عداوة ومحاربة له كأم حبيبة بنت أبي سفيانº فلو لم يكن يقوم الليل على الدوام كما فرض عليه القرآن لعلم به المخلصون في صحبته، ودخلهم الريب في صحة دعوته، أو علم به خصومه الألداءº فوجدوا في أيديهم ما يطعنون به في صدق نبوته.

نُحَوِّل النظر إلى موقفه تجاه الخالق حين تمسه الضراء، فنراه كالعلم الشامخ تهب عليه عواصف البلاء فلا تلقى إلا قلباً صابراً وقدماً ثابتاً، وحسبكم شاهداً على هذا ما كان يلاقيه في بعض غزواته من شدائد، فلا يكون من هذه الشدائد إلا أن تؤكد عزمه، وتشد أزره، وتزيد داعية توكله على الله قوة، وكذلك ينبغي للمسلم أن يواجه البأساء في صبر ووقار، ويعمل على كشفها ما استطاع، ويضيف إلى هذا الدواء الناجع الاعتماد على من بيده ملكوت كل شيء، فقد قال -تعالى-: [لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ].

هذا شأنه - صلى الله عليه وسلم - في الخطوب، إما إذا أفاض الله عليه نعمة فإنها تنزل بأرض طيبة المنبتº فلا تثمر إلا شكراً، ومن شكره للنعمة أن لا يتعاظم بها، أو يلبس في معاملة الناس حالاً غير ما كان يلبسه قبلها.

وقد كان حاله - صلى الله عليه وسلم - في الزهد والتواضع بعد فتح مكة وغيرها من البلاد كحاله يوم كان يدعو إلى الله وحيداً وسفهاء الأحلام في مكة يسخرون منه ويضحكون.

نصوب النظر بعد هذا إلى سيرته في الخليقة فنراهم أمامه أربع طوائف:

1- طائفة المهتدين: وهؤلاء يلاقيهم في بشر وطلاقة محيا، ويخالطهم في تواضع يعلمهم به أدب المساواة بين الرئيس والمرؤوس، ويحمل لهم من الرحمة ما هو أرق من النسيم، وأجود من الغيث العميم.

أما البشاشة وطلاقة المحيا فإنا نقرأ في الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي أنه قال: \"ما حجبني[2] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم\".

فالذين يلقون ذوي النفوس الطاهرة في كُلُوحٍ, وانقباض بعلة المحافظة على الوقار - لم يهتدوا إلى السيرة الحميدة سبيلاً.

وأما التواضع فقد قال أنس بن مالك: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلُقاً وإن كان ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: \"يا أبا عمير ما فعل النغير\".

فالذين يخرجون للناس في وجوه عليها غبرة الكبرياء إنما يلقون قلوباً نافرةً، وألسنةً ساخرةً، ولقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة لو شاءوا أن يكونوا أجلاء محترمين.

وأما الرحمة فقد قال -تعالى- في كتابه الكريم: [عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتٌّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] (التوبة: 128).

وحدثنا عن هذه الرحمة مالك بن الحويرث إذ قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شَبَبَة[3] متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أننا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا وراءنا من أهلنا فأخبرناه، وكان رقيقاً رحيماً، فقال: \"ارجعوا إلى أهليكم، فعلموهم، ومُرُوهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي.

2- طائفة المنافقين: وهؤلاء كان - عليه الصلاة والسلام - يعاملهم بما يشبه معاملة المهتدين من الرفق بهم، والإحسان إليهم، ومقابلة إساءتهم بالعفو.

نقرأ في السيرة أن طائفة منهم هموا بقتله في طريق إيابه من غزوة تبوك، وخاب سعيهم بما أوحى الله إليه من أمرهم، فقال بعض المسلمين: ألا تأمر بهم يا رسول الله فنضرب أعناقهم، فكان جوابه أن قال: \"أكره أن يقول الناس: أن محمداً قد وضع يده في أصحابه\".

3- طائفة المخالفين المسالمين: وهؤلاء يلقاهم بالجميل، ويقسط إليهم، ولا يهضم لأحد منهم حقاً، يأخذ فيهم بأدب قوله -تعالى-: [لا يَنهَاكُم اللَّهُ عَن الَّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَم يُخرِجُوكُم مِن دِيَارِكُم أَن تَبَرٌّوهُم وَتُقسِطُوا إِلَيهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبٌّ المُقسِطِينَ] (الممتحنة: 8).

ونقرأ في الصحيح: أن غلاماً يهودياً كان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض الغلام، فعاده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاه إلى الإسلام، فأجاب الدعوة، ومات مسلماً.

وحسن معاملته - عليه الصلاة والسلام - للمخالفين الذين دخلوا معه في عهده، أو رضوا بأن يعيشوا تحت راية الإسلام من أوضح الشواهد على سماحة الدين الحنيف وبنائه على رعاية قاعدتي الحرية وتوطيد السلامº فراية الإسلام صالحة لأن تخفق على رؤوس أمم مختلفة في عقائدها، متفاوتة على مرافق حياتها.

4- طائفة المخالفين المحاربين: وهؤلاء يخرج لهم - عليه الصلاة والسلام - في مظهر الحزم والاحتراس، ويدفعهم بالتي هي أحكم وأعدلº فيرفق بهم إن كان هنا موضع للرفق، ويأخذ فيهم بسنة العزم إن طغى بهم الشر، فلم يكن الرفق ليزيدهم إلا تمرداً.

فإذا أذن -صلوات الله عليه- بقتل كعب بن الأشرف فلأن كعباً هذا كان شاعراً، وكان يهجو رسول الله، ويحرض عليه كفار قريش، ويفعل بعد هذا شيئاً وهو أشد على قلوب العرب من وقع السهام النافذة، وهو أنه كان يشبب بنساء المسلمين.

وقد احتمل منه النبي - عليه الصلاة والسلام - هذا الأذى حيناً، ولما أبى كعب أن ينزع عن إثارة هذه الفتن أذن لأحد الأنصار في قتلهº ليميط عن سبيل الدعوة إلى الله حية تسعى، ويدفع عن أعراض المسلمين شعراً مقذعاً.

قال سخيفٌ معروف في العراق يتزلف لمذهب النصرانية: \"إن عيسى فدى العالم بنفسه، ومحمداً قاتل أعداءه حرصاً على حياته\".

ومن ذا يجهل أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد أفاض على العالم حكمة وهداية وإصلاحاً، وما الحسام الذي يأمر بانتضائه إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليلº لينزف دمه الفاسد حرصاً على صحته وسلامته.

ومن تقصى السيرة النبوية وجد فيها ما يصدق قول عائشة -رضي الله عنه-: \"ما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله\".

فمحمد - عليه الصلاة والسلام - لم يقاتل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون حرصاً على حياته، وإنما كان يقاتلهم حرصاً على حياة الفضيلة، وظهور الحق، وإقامة نظم المدنية المهذبة، ولكن الناشئين على اللهو واتباع الشهوات لا يفقهون.

 

25/4/1427هـ

 

----------------------------------------

[1] مجلة الهداية الإسلامية الجزء الحادي عشر من المجلد الثاني الصادر في ربيع الآخر1349، وانظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر، إعداد علي الرضا الحسيني، ص99-104.

[2] ما منعني من الدخول إليه إذا كان في بيته ما استأذنت عليه.

[3] جمع شاب.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply