يوم غزة .. ويوم الرجيع


  

بسم الله الرحمن الرحيم

جذبتني القصة فجذبتها إلى أوراق كانت أمامي، فانسابت جاذبيتها في سطور حنت إلى العظمة والشموخ، وجرى القلم يخلط الحبر بالدموع على شباب لم يألفوا في حياتهم إلا معاني الفداء والشجاعة، شباب الشجاعية الذين نضح حيهم بشمائلهم كما ينضح الإناء بالعسل..شباب الشجاعية الشجعان.. لنعم المنبت ولنعم المصير..

 

وليس من عجب أن يستدير الزمان فيهبنا قصة من بعد أخرى تحمل معاني الثقة والإيمان بقيمة الهدف والتزامه بتضحيات وفدائيات مناظرةº لا تقل في ترفعها عنه تسامياً..

 

يوم الرجيع راجعني حين فجعت بخبر استشهاد رجال العالم الإسلامي الـ 15 الميامين في حي الشجاعية بغزة العزة، والسر ليس كونهما متلازمتين في تسلسل الأحداث وتتابعها.. لا، فليسا كذلك، بل من الاعتساف أن نحاول حملهما على التطابق.

 

لكن الإنصاف يقتضي أن ندور حول الحدثين أو لنقل اليومين الذين ظن الكفر والاستكبار يومهما أنه قد أصاب من الإسلام ورجاله مقتلاً أو أنه قد نال شيئاً من مآربه الخسيسة في محض دماء بلت الثرى، وأفئدة عانقت السماوات العلى، وأرواح آوت إلى حواصل طير خضر في جنان الرحمن للفائدة، ذاك أن الدوران في فلك السياسة المحضة بقوانينها وجمودها وحدتها يفوت فوائد جمة ويغيب معاني تود الأمة الإسلامية لو تلتفت إليها في دياجير الظلم والظلمات المدلهمة.

لكن الإنصاف يقتضي أن ندور حول الحدثين أو لنقل اليومين الذين ظن الكفر والاستكبار يومهما أنه قد أصاب من الإسلام ورجاله مقتلا أو أنه قد نال شيئا من مآربه الخسيسة في محض دماء بلت الثرى

هذان هما اليومان الجليلان، ومن بعدهما نلتمس من الأمس السلوان في مصيبة اليوم:

وفقاً لأبي إسحاق كان يوم الرجيع ـ هكذا اختصاراً ـ: رهط قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة أحد من عضل والقارة، فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم ستة من أصحابه (والأصح ما ذكره البخاري بأنهم كانوا عشرة) فيهم عاصم بن ثابت، وزيد بن الدثنة، وخبيب بن عدي، وأمّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي فخرجوا مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع (ماء لهذيل بناحية الحجاز) غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلاً فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم..

 

دار القتال غير المتكافئ بين الطرفين، وقتل من قتل من المسلمين، فأما عاصم بن ثابت فاستشهد هو وأصحابه رضي الله عنهم، وأمضى الله له كرامة تحفظها الأجيال جيل من بعد جيلº حين نذر لله ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً، وكانوا يطمعون في بيع رأسه لأهل بعض قتلى بدر فأحاطت به الدبر (الزنابير أو النحل أو الجراد الصغير) نهاراً، واحتمل سيلاً جثمانه الطاهر ليلاً.

 

ولم يكن بوسع خبيب وزيد رضي الله عنهما إلا أن يفضلا الأسر بعد أن استحال القتال.

 

وبالفعل تم تسليم الأسيرين لقريش التي انتظرت حتى مضت الأشهر الحرم، وجرت مراسم الإعدام بمشهد مهيب حضرته قريش كلها، وأظهر الأسيران حباً جماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. (نعرض لأقوالهما لاحقاً بهذا الخصوص).. فأما زيد فقد قتل بالسيف، وأما خبيباً فقد قتل صلباً - رحمهما الله -.

 

وفي غزة بحي الشجاعية كان لشباب حماس موعد مع القتل أيضاً في معسكر كشفي (أو معسكر تدريبي) بمنطقة مكشوفة حين تمكن العدو الصهيوني من كشفهم وأمطرهم بقذائف مسمارية شديدة الانفجار أدت إلى مقتل خمسة عشرة مسلماً، وجرح نحو خمسة وأربعين آخرين..

وكان بين الفريقين بالأمس واليوم تشابهات كثيرة، فكلاهما كان يتحرك نصرة لدينه وفداء لشريعته.. كلاهما خرج في سبيل الله وفقاً لحسابات ميدانية معينة.

 

وكلاهما لم تسر سيناريوهات التحرك وفقاً لتلك الحسابات.. كلاهما تعرض تحركه لانتقادات عنيفة من قبل أطراف تجلس في مقاعد التنظير وتراقب الأحداث من أبراجها العاجية ومعيشتها المخملية، فقال بعض المحللين السياسيين والمنظرين العرب: لقد ارتكبت حماس خطأ قاتلاً ينم عن سوء تقديرها للأحداث، وقال بعض المنافقين في قتلى يوم الرجيع ـ وفقاً لرواية ابن عباس - رضي الله عنه - : ويح هؤلاء القوم، لا هم قعدوا في بيوتهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فنزلت هذه الآية في صفاتهم \"وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَيُشهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدٌّ الخِصَامِ \" [البقرة: 204]، وحفظ الله للمستشهدين في غزوة الرجيع أجرهم وقدرهم في قوله تعالى: \" وَمِن النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ اِبتِغَاءَ مَرضَاتِ اللَّهِ.. \" [البقرة: 207].

 

كلاهما لم يدر بخلد أصحابه أن قرار القيادة المسلمة كان انتحاراً أو خطأ يستدعي الحنق عليها، بل على النقيض تماماً، فالحب ـ كل الحب ـ كانت تحمله أنفس الفدائيين لقيادتها ولمنهجها ولخطها الأصيل مهما جرت الأحداث على غير ما يشتهون، ومن عجب أن الذين أظهروا اللين والرقة، ورضوا بالأسر عن القتل في القصة الأولى أبقى الله لنا من أمرهم كلمات نور يتألق فيها الحب للقيادة المسلمة - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر اللحظات صدقاً مع النفس، وهي لحظات القتل التي لا تحتمل المجاملات والمعاريض.. خرجت الكلمات مضيئة من ثغر زيد بن الدثنة - رحمه الله - حين ناشده أبو سفيان الصدق في الإجابة على تساؤله: يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.

 

وخرجت الكلمات كطلقات الرصاص حين استشرف وجوه صالبيه فقال: اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو اللهم إنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك السلام عني، فبلغه أنت عني السلام..

وفي القصة الأخرى كان الرضا بادياً في محيا ذوي الشهداء في الشجاعية وفي أقوالهم.

\"خرج إيهاب ليلة استشهاده كغير عادته يلبس ملابس عسكرية جديده، ويستعرض بها أمام والدته، ويقول لها: \"انظري كيفك يا أمي هاللبس\"، فردت عليها بقولها: الله يرضى عليك يا ولدي ويحفظك من كل مكروه، فأراد الله تعالى أن يحفظه فعلاً عنده شهيداً إن شاء الله، قال شقيق الشهيد إيهاب محمد الديب (21 عاماً)، وقال خاله: \"لطالما تمنى الشهادة وسعى لها سعياً عظيماً\"..

\"استقبلت زوجتي نبأ استشهاد أيمن بألم على فراقه، لكنها صبرت واحتسبت أمرها إلى الله - عز وجل -.. قال والد أيمن خزاع فرحات (19 عاماً).

 

هذه المحبة الصادقة والرضا بقضاء الله والتقدم بلا التفات للأواء الطريق لا تنطوي إلا عن قناعة تامة بجلال الهدف وعظم الرسالة المؤداة، وماذا بوسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل إذا أناس جاؤوه يطلبون التفقه في الدين، وقد أوكل الله سرائرهم إليه - سبحانه -؟ وما بوسع قيادة حماس أن تفعل إزاء انسداد كل السبل أمام تدريب كوادرها لمناجزة العدو الصهيوني؟

إن التحرك لنصرة الدين والعقيدة لا يلام أصحابه وإن بدا اجتهادهم في ظاهره مرجوحاً أو مخطئاً، وإنما الملام ـ كل الملام ـ على القعود الراضين بالزرع المتبعين أذناب البقر..

في كلتا الحادثتين استخدم العدو \"أسلحة محرمة\"، في الأولى كان الصلب الذي كانت تأنفه العرب و\"تحرمه\" عربياً، وفي الأخيرة استخدم الصهاينة أحد أخطر أنواع الأسلحة المحرمة دولياً، وتدعى صواريخ \'هيل فاير\'، والتي تقتل أكبر عدد من الأشخاص بالمسامير والمعادن صغيرة الحجم التي تخترق الجسم وتمزق معظم أعضائه، وخاصة الأوعية الدموية.

وقد كان لله فيهما حكمة ربما تغيب عن أولئك الذين يلصقون عدسات المادية السياسية على عيونهم.. ترى أيهما كان للإسلام أجدى وله أنفع: أن ينجو خبيب ورفاقه من القتل، ويعمرون لأجل هم بالغوه أم تتردد قصة صمودهم على مدى أربعة عشر قرناً ونيف، وتتلا أشعارهم على أسماعنا في القرن الواحد والعشرين تحفز كل مناضل، وترتقي بمعاني الثبات والجلد، وتكون أنموذجاً يحتذى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟

\"والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون\".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply