شباب الصدر الأول ودوره في الدعوة إلى الله


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:-

يطيب لي الحديث اليوم عن جهود جيل الصدر الأول من هذه الأمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وكيف أثمرت تلك الجهود المباركة في طاعة رب العالمين، وإتباع رسوله الأمين.

ولعلنا نعلم عن الجهود الكبيرة والتضحية العظيمة من الفتى الأرقم بن أبي الأرقم الذي جعل داره محضناً للدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، يجتمع فيها رجال الدعوة وسادتها، حتى عز الإسلام وقوي المسلمون، وأظهروا دينهم، ودعوا إلى الله سبحانه وتعالى علانية. فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم هي موطناً أولياً لتلك الدعوة المباركة التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، أخرجت الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

وفي المدينة المنورة أيضاً هيأ أسعد بن زرارة للدعوة محضناً جديداً، حيث نزل عنده مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي أرسله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى أهل المدينة يفقههم، فأخذ أسعد بن زرارة يهيئ له جو الدعوة ويدله على أحياء المدينة، ويمنعه ممن يؤذيه ليبلغ دعوة اللّه حتى انتشر الإسلام في المدينة.

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا اثني عشر رجلاً في العقبة الأولى، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء: أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فمن وفى فله الجنة، ومن غشي من ذلك شيئاً فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. قال أبو حاتم: فلما كان الموسم جعل النبي صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل يدعوهم إلى الله، فاجتمع عنده بالليل اثنا عشر نقيبا من الأنصار، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نخاف إن جئتنا على حالك هذه أن لا يتهيأ لنا الذي نريد، ولكن نبايعك الساعة، وميعادنا العام المقبل فبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف. فمن وفى فله الجنة، ومن غشي من ذلك شيئا فأمره إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه … ثم رجعوا إلى قومهم بالمدينة وأخبروهم الخبر وفشا ذكر الإسلام بالمدينة، فكان الواحد بعد الواحد من الأنصار، يخرج من المدينة إلى مكة فيؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينقلب إلى أهله، فيسلم بإسلامه جماعة، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام.

ثم اختلف الأوس والخزرج في الصلاة، وأبوا أن يترك بعضهم يؤم بعضاً، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مصعب بن عمير مع جماعة، وذلك أنهم كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يبعث عليهم رجلاً من أصحابه يفقههم في الدين، فنزل مصعب بن عمير على أسعد بن زرارة، فكان يأتي به دور الأنصار، فيدعوهم إلى الله ويقرأ عليهم القرآن، ويفقه من كان منهم دخل في الإسلام، وكان إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير على يد مصعب.

وذلك أنه خرج مع أسعد بن زرارة إلى حائط من حوائط بني النجار، معهما رجال من المسلمين، فبلغ ذلك سعد بن معاذ، فقال لأسيد بن حضير: ائت هذا الرجل فلولا أنه مع أسعد بن زرارة وهو بن خالتي كما علمت كنت أنا أكفيك شأنه، فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم خرج حتى أتى مصعبا فوقف عليه متشتماً، وقد قال أسعد لمصعب حين نظر إلى أسيد: هذا أسيد، من سادات قومه، له خطر وشرف. فلما انتهى إليهما تكلم بكلام فيه بعض الغلظة، فقال له مصعب بن عمير: أو تجلس فتسمع فإن سمعت خيراً قبلته، وإن كرهت شيئاً أو خالفك أعفيناك عنه؟ قال أسيد: ما بهذا بأس. ثم ركز حربته وجلس، فتكلم مصعب بالإسلام وتلا عليه القرآن، قال أسيد: ما أحسن هذا القول. ثم أمره فتشهد شهادة الحق، وقال لهم: كيف أفعل؟ فقال له: تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتركع ركعتين. ففعل، ورجع إلى بني عبد الأشهل، وثبتا مكانهما، فلما رآه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد رجع إليكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف عليه، قال له: سعد ما وراءك؟ قال كلمت الرجلين، فكلماني بكلام رقيق، وزعما أنهما سيتركان ذلك، وقد بلغني أن بني حارثة قد سمعوا بمكان أسعد، فاجتمعوا لقتله وإنما يريدون بذلك إحقارك وهو بن خالتك، فان كان لك به حاجة فأدركه. فوثب سعد وأخذ الحربة من يدي أسيد، وقال: ما أراك أغنيت شيئاً. ثم خرج حتى جاءهما ووقف عليهما متشتما، وقد قال أسعد لمصعب حين رأى سعداً: هذا والله سيد من وراءه، إن تابعك لم يختلف عليه اثنان من قومه. فأبلي الله فيه بلاء حسناً، فلما وقف سعد قال لأسعد بن زرارة: أجئتنا بهذا الرجل يسفه شبابنا، وضعفاءنا؟ والله لولا ما بيني وبينك من الرحم ما تركتك وهذا!

فلما فرغ سعد من مقالته قال له مصعب: أو تجلس فتسمع فان سمعت خيراً قبلته وإن خالفك شيء أعفيناك؟ قال: أنصفت. فركز حربته ثم جلس، فكلمه بالإسلام وتلا عليه القرآن، فقال سعد: ما أحسن هذا! نقبله منك ونعينك عليه، كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال: تغتسل وتطهر ثوبك وتشهد شهادة الحق وتركع ركعتين، ففعل ثم خرج سعد حتى أتى بني عبد الأشهل، فلما رأوه قالوا: والله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف عليهم قالوا: مما جئت؟

قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون رأيي فيكم وأمري عليكم؟ قالوا: أنت خيرنا رأيا.

قال: فإن كان كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله وحده، وتشهدوا أن محمدا رسول الله، وتدخلوا في دينه. فما أمسى من ذلك اليوم في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلم.

لا شك أن الأرقم بن أبي الأرقم، ومصعب بن عمير رضي الله عنهم أجمعين هم من شباب صدر الإسلام الذين بذلوا ما في وسعهم للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ونشر دين الإسلام، فالأرقم بن أبي الأرقم لم يبخل بداره أن تكون هي المحضن الأول الذي يجتمع فيه المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعلموا منه أمور دينهم الجديد، ويتدارسوا كيفية تبليغ هذا الدين الحنيف في مكة، في البلد الذي عاش أهلها على الشرك وحب الأصنام، ولقي المسلمون الأوائل منهم صنوف التعذيب والصد عن دين الله، فكانت الدار مكاناً تهدأ فيه النفوس وتطمئن القلوب ويتواصى فيه الناس على الصبر والمضي على دين الله تعالى.

وأما الفتى الآخر مصعب بن عمير الذي ترك نعومة الشباب وزهرة الشباب في سبيل الله تعالى، واختار شظف العيش في سبيل الانتماء لهذا الدين والدعوة إليهº لأنه عرف ما أعده الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين فسعى في طلب ما عند أرحم الراحمين.

إن حياة مصعب عمير وغيره من شباب صدر الإسلام، فيها الدروس العظيمة، والعظات البليغة، لشباب الإسلام في كل زمان ومكان، فكثير من شباب الإسلام في العصر الحاضر عندهم من القدرات والإمكانات ما يمكن تسخيره في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فالسيارات على سبيل المثال، والحاسبات، والهواتف ونحوها من الأجهزة المعاصرة، كل ذلك مما يمكن تسخيره في نشر العلم ودعوة الناس إلى الخير. فعلى شباب الإسلام أن يجدوا ويجتهدوا في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كل بحسب حاله، وقدراته، والأمة الإسلامية بحاجة إلى جهود شبابها، وباب الدعوة واسع، فالمشاركة تكون بالمال أو بالكلمة أو بالكتابة، أو الهدية أو الخدمة أو نحو ذلك.

وفي الختام نسأل المولى جل وعلا أن يلهمنا رشدنا، وأن يوفقنا لصلاح ديننا ودنيانا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply