نماذج مشرقة (1)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

يحفظ التاريخ الإسلامي المبكر موقفاً إيمانياً كريماً لرجل من أهل الكتاب، ضرب مثلاً رائعاً في الصدق والتجرد، وترك أثراً حميداً مطمئناً في نفس نبي الله محمد، - صلى الله عليه وسلم -.

روت كتب السنة، والسيرة النبوية أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه الملك لأول مرة في الغار الذي كان يتعبد فيه، قبل بعثته، فزع فزعاً شديداً، وعاد أدراجه إلى زوجته خديجة، - رضي الله عنها -، التي طمأنته، وذكرته بمآثره السابقة، وأفعاله الإنسانية الجميلة. ولم تكتف بهذا، بل أخذته إلى ابن عمٍ, لها، كان قد ترك الوثنية، واعتنق النصرانية، ويحسن كتابة الإنجيل باللغة العبرانية، اسمه: (ورقة بن نوفل). وكان قد شاخ، وذهب بصره. فلما قصَّ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رأى، أجاب ورقة على الفور، بثقة واستبشار: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى. يا ليتني فيها شاباً! ليتني أكون حياً، حين يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعجباً: أوَ مخرجيَّ هم؟! قال ورقة: نعم، لم يأت أحدٌ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. إلا إنه مات، - رضي الله عنه -، ورحمه. ونقف وقفات تأمل عند هذه القصة:

أولاً: صدق ورقة، وتجرده للحقº فلم يمنعه دينه السابق أن يرحب بالدين الجديد، بل رأى أنه امتداد له، وتجديد لدين الله في الأرض.

ثانياً: الشهادة الإيمانية لمؤمن أهل الكتاب، للنبي الخاتم، واليقين الجازم أن هذا الملك هو ذات الملك الذي أتى الأنبياء قبل محمد، موسى، وعيسى، وهو جبريل، عليهم صلوات الله وسلامه.

ثالثاً: الشجاعة الأدبية لهذا المؤمن الكتابي، والاستعداد التام للنصرة والتأييد، بالقول، والفعل، والتحسر على حصول النبوة الخاتمة، وقد تخطى سن الشباب والفتوة.

رابعاً: الإدراك الواعي لطبيعة الرسالات الإلهية، وما يترتب عليها من ابتلاءٍ,، وتضحيات، وأذى، يطال أنبياء الله، ومن ذلك الطرد والنفي من الوطن. قال - تعالى -: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِم لَنُخرِجَنَّكُم مِن أَرضِنَا أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوحَى إِلَيهِم رَبٌّهُم لَنُهلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسكِنَنَّكُم الأَرضَ مِن بَعدِهِم ذَلِكَ لِمَن خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [إبراهيم: 13-14].

لقد كان ورقة، - رضي الله عنه - ورحمه، مثالاً للمؤمن الحر المتجرد، الذي يبحث عن الحق، ويفرح به، وينصره، ويشهد له، ولا يقع أسيراً لعادات، وموروثات، واعتبارات، تحول بينه وبين النجاة، والخلاص.

وكثير منكم، معشر أهل الكتاب، تراوده، في لحظة من لحظات الصفاء والإشراق، فكرة اتباع الحق، وقبول الإسلام، باعتباره الصورة الصحيحة، المنقحة، الكاملة، لدين الله في الأرض، المصدِّقة للرسالات السابقة، المخلِّصة لها من الإضافات والشوائب، لكن يعترضه، دون اتخاذ هذا القرار الشجاع، ركام من الأوهام، والخلفيات المغلوطة، أو الاعتبارات الاجتماعية، أو النفسية. فما أحرى الإنسان العاقل الحكيم أن يتأمل موقف هذا الشيخ الحكيم، ورقة بن نوفل، ويمتطي صهوة الحق بشجاعة وثقة، ويتخطى الحواجز الوهمية، ليصل إلى بر الأمان، وسعادة الدنيا والآخرة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply