أمينة قطب شاعرة الشهادة والمعتقل في ذمة الله


  

بسم الله الرحمن الرحيم

رحم الله الأديبة الكبيرة أمينة قطب فما أن علمنا بموتها مساء أمس الأحد الثامن عشر من ذي الحجة 1427هـ/السابع من يناير 2007 م فدمعت العين وحزن القلب ولم يسعنا إلا أن نقول إنا لله وإنا إليه راجعون ونكتب أسطر قليلة ليعرف إخواننا من هي تلك الأديبة المجاهدة - رحمها الله - وغفر لنا ولها الذنوب..

أبصرت أمينة قطب النور في قرية \"موشا\" بمحافظة أسيوط في مصر، ونشأت في أسرة كريمة متدينة.وكان والدها الحاج \"قطب إبراهيم\" على حظ من الوعي والمعرفة والتنوٌّر، وكان متديناً ووجيهاً في بلده.وكانت أمها امرأة فاضلة ومتدينة، وكان القراء يرتلون القرآن في دارهم طوال شهر رمضان. وبعد وفاة والدها الحاج إبراهيم، غادرت أسرتها القرية إلى القاهرة واستقرت فيها.

اتصفت أمينة بالعديد من الصفات الطيبة، فهي امرأة فاضلة، داعية وأديبة وشاعرة، كانت مهتمة بالأدب، وخاصة في مجال كتابة القصة القصيرة، وقد نشرت عدداً منها في المجلات الأدبية التي كانت تصدر في القاهرة، مثل مجلة الأديب، ومجلة الآداب، ومجلة العالم العربي، وذلك في سنوات 1947م إلى 1954م.

 

تجربة المعتقل!

ولجت المعتقل مع العديد من أفراد أسرتها وظلَّت رهن الاعتقال في السجن الحربي فترة من الزمن، وتزوَّجت أمينة من المجاهد \"كمال السنانيري\"، وما لبثت أن فقدته شهيداً.

كانت أمينة في مطلع شبابها شغوفة بقراءة الشعر وحفظه، حتى إنَّها كانت تترك ما عليها من واجب دراسي وتسهر إلى وقت متأخر من الليل لتحفظ قصيدة أعجبتها. وكان الجو من حولها يغذي ذلك الشغف بالشعر.. فكان شقيقها الكبير العائل والموجه شاعراً وكاتباً، وكان الشقيق الثاني شاعراً وكاتباً أيضاً.

كتبت أمينة بعد قراءة جيدة للشعر عدَّة أبيات تعبِّر فيها عن عواطفها وأحاسيسها، لكن تلك الأبيات لم تكن شعراً، وبعد عدَّة محاولات لم تصل في نظم الشعر إلى شيء، واتجهت إلى كتابة القصة القصيرة، لكن قراءتها للشعر ظلت مستمرة، وقد شجعها شقيقها الكبير \"سيد\" على المضي في هذا المجال، حيث كان ينقد لها ما تكتب ويبصرها بمسالك الدرب الذي رأى أنها تملك السير فيه، ووجهها ووجه باقي إخوته وهو بين جدران السجن، أن تأخذ كتابتهم الطابع الإيماني، وأن يكون تصورهم وأحاسيسهم ومشاعرهم بعيدة كلها عن تصورات الجاهلية واتجاهاتها في التعبير، في النثر والشعر.

 

رباط داخل السجن

وفي تلك الأثناء كان قد تمَّ الرباط بينها وبين المجاهد كمال السنانيري وهو داخل السجن، وكانت التجربة عميقة مثرية للأحاسيس والخيال والمشاعر. وكانت كل زيارة تقوم بها أمينة للسجين المجاهد الصلب، تثري خيالها ومشاعرها بألوان الأحاسيس، فتضمنها قصة أو رسالة من رسائلها إليه، أو تضع الأقاصيص في مخابئها حتى يأذن الله بالخروج.

 

وكتبت أمينة مجموعتين قصصيتين هما \"تيار الحياة\" و\"في الطريق\"، ولم تتجه إلى كتابة الشعر إلا بعد أن ارتبطت بالمجاهد السنانيري وهو في السجن إثر إحدى الزيارات التي كانت قد تأثرت فيها من كلام زوجها لها بأنَّ لها الخيار في اتخاذها موقفاً تراه مناسباً وتتجه لمستقبلهاº لاحتمال أن يطول مكثه في السجن، والذي آلمها لقصر مدة الزيارة، فبدأت بكتابة رسالة إليه تعتب فيها على \"ذلك الحديث وذلك التفكير في أمر فك ارتباطهما\" وهنا كما توضح أمينة وتقول: \"وجدت كلماتي تخرج منظومة على غير تدبير مني\".

 

زوج الشهيد!!

وكانت أمينة قد كتبت عدة أبيات أعجب بها زوجهاً إعجاباً شديداً، وربما كان لذلك تأثير في معاودة نظمها الشعر، لا سيما أنَّ المناسبة تستدعي ذلك.. ومنذ تأثرها بكلام زوجها أخذت أمينة تنظم الشعر وتجيده.

وجاءت سنة 65 و 1966م لتحمل المصاب الجلل، وكان فيها من الأهوال ما يعجز الشعر والنثر عن وصفه أو التعبير عنه. كانت تجربة عنيفة هائلة، صمتت فيها كل أوتار النفس، ولم تعد تملك الحديث..

وخرج شريك حياتها من السجن، ثم اعتقل مرة أخرى، ثم كان استشهاده الذي عُد انتصاراً له على الباطل، ومناراً للسالكين طريق الحق. أما الزوجة الصابرة \"أمينة\" فكان هذا الحادث شديد الوقع عليها، عميق الأثر في القلب والشعور، فكانت قصائدها صورة من صور التعبير لهذا الابتلاء، ولوناً من ألوان المعاناة لهذا الفراق.. جاءت لتبرز قضية خالدة على مدى الزمان.. قضية الإيمان في مقابل الضلال، قضية العباد الذين يفردون الله - سبحانه - بالطاعة والعبادة، ويأبى عليهم إيمانهم أن يحنوا رؤوسهم لغير الله..

 

أدبها مرآة لمأساتها:

قالوا: إن الأدب مرآة للحياة، وربما صدقوا في جانب من هذا القولº لأننا لن نطلب من الأديب أن يؤرخ لحياته ومجتمعه في أدبه، ولكن متناثرات هذه الحياة في الأدب والإبداع تساعدنا في الكشف عن عناصر الغياب أو الرموز التي هي عماد من أعمدة الاستمتاع بالعمل الأدبيº سواء كان رواية، أو قصة قصيرة، أو غير ذلك من أجناس الإبداع، وهذا الأمر في الشعر له أهميته الخاصة لما للشعر من سمات إذا فقدها فقد الكثير، مثل: التصوير والتكثيف والرمز، وغير ذلك من الأدوات الفنية الخاصة بجنس الشعر، و\"أمينة قطب\" لا ينفصل أدبها عن أحداث حياتها، لكن هذه الأحداث في شعرها لا تتراءى صورًا تسجيلية متتابعة، بل هي بمثابة الوقود الذي يؤجج المشاعر، فتفيض بما أراد الله لها أن تفيض به من إبداع، ولا تدعي الشاعرة \"أمينة قطب\" أنها بلغت منازل الشعراء المفلقين أو النابغين الملهمين في الشعر، بل تعد ديوانها الذي كتبته تعبيرًا عن مشاعرها ظهر في صورة قول منظوم.

تقول: \"ووجدتني فجأةً أعبر عن ابتلائي فيه- زوجها الشهيد \"كمال السنانيري\"- بهذه القصائد، بلا قصد ولا تدبير، ولم أملك في نفسي وسيلةً أخرى طوال عام كامل للتعبير عن فقده إلا بهذا القول المنظوم، هل لأن النثر لا يملك أن يواكب حرارة المشاعر وانطلاقها في مقابلة حادث شديد الوقع عميق الأثر في القلب والشعور؟ أم هي تلك الجذور للرغبة القديمة في أن أعبر عن مشاعري بكلام منظوم؟ أم هو ذلك الأثر الذي تركته في نفسه تلك القصيدة التي كتبتها له وهو في سجنه البعيد؟ أم هي محاولة ضعيفة للوفاء بوعدي له بأن أكتب وأبدأ بأي عطاء للطريق؟ لست أدري، ولكن هكذا كان.. وعلى أية حال، فأنا لا أعتبر هذه القصائد القليلة شعرًا في مجال الشعر الواسع المليء بالإبداع، ولكنها صورة من صور التعبير المنظوم أبت إلا أن تخرج على هذه الصورة ولونًا من ألوان المعاناة في حادث هائل في حياة قلب\".

كانت هذه كلماتها، ومن حقها أن ترى شعرها كما شاءت، ومن حقنا كذلك أن نتحدث عن هذا الشعر من وجهة نظرنا كوننا نجتهد في تقييمه وبيان مسالبه أو جمالياته، ونلحظ في شعرها أنه يدور في أكثره حول موضوع واحد أو إنسان واحد هو زوجها الذي سبق، وإن ذكرنا أنها ضحت من أجله بالكثير ولاسيما سنوات انتظارها له.

أمينة شاعرة إسلامية عانت الألم الذي يواجه دعاة الإسلام، وكان في أسرتها المعذب والسجين والشهيد، فجاء شعرها صورة لآلامها.. في ديوانها \"رسائل إلى شهيد\" صرخة استنهاض في وجه من تسميهم بالخانغين أو القطيع، أولئك الذين رضوا بالذلة والهوان.. وفيه مجموعة من القصائد جاءت كأنها رسائل وجهتها إلى الزوج الشهيد، وإلى السائرين على درب الحق رغم أشواك الطريق.. ففي قصيدة \"في دجى الحادثات\" تصف لقاء كيانين ألّفت بينهما العقيدة ووحَّد بينهما الإحساس المسؤول بثقل الرسالة وجسامتها ليتحركا في صبر الأباة المجاهدين صوب الهدف الذي أملاه الواجب الشرعي، تقول:

أو لم نمضي على الحق معا ***كي يعود الخير للأرض اليباب

نتحدى ظلمات وطغاة *** عبَّدوا الناس بإذلال الرّقاب

أبعدوا الدين سلوكا وحياة *** وأرادوه سطورا في كتاب

فمضينا في طريق شائك***نتخلى فيه عن كلّ الرّغاب

ونعيش العمر ألوان عناء ***في سجون قد أُعدت للعذاب

 

وفي قصيدة \"من المنفى\" كتبت أمينة عن الزوج الحبيب الشهيد، وتغنَّت بفرحة اللقاء قائلة:

شاقني صوتك الحبيبُ على الها*** تف يدعو ألاّ يطول غـيابي

شاقني أن تقول لي: طال شوقي*** قد غدا البيتُ موحشاً كاليباب

شاقــني ذلك النداء حنوناً *** فلتعـودي لعالم الأحـباب

شاقـني أن تقـول: حُبك بعداً*** لا تعيـدي بواعث الأســباب

 

وإذا فتشنا في شعرها عن أثر فقدها لزوجها وجدنا منه الكثير، ويتراءى هذا الفقد في مخيلتها طوال الوقت، ويملأ جنبات نفسها كذلك، وأحيانًا ينعكس على ما حولها من موجودات، حتى الجمادات أحست مع الشاعرة وتأثرت بهذا الفقدº وهو ما يوحي بشدة الأثر الذي خلفه غياب الزوج الحبيب عن زوجته.

فهي في عذاب بسبب بعد زوجها عنها، لقد كان معينها في رحلة الجهاد، وكان الأمل الذي يهون عليها مشاقها، لكنه الآن في عالم آخر:

أنا في العذاب هنا وأنت بعالم فيه الجزاء بجنة الديان

وتأتي ليلة القدر فتتذكر الشاعرة زوجها، وقد قلبت هذه الليلة المباركة عليها المواجعº وهو ما يوحي بذكريات كانت لهما معًا في طاعة الله، ثارت مشاعر الزوجة تحنانًا لها:

لـيلة القدر خبريني بمـــاذا ***سوف ألقاك.. كيف أخفي شجوني

كيف أخفي الهموم والقلب باك*** وغـزير الـدمــوع ملء جفوني

وطيوف الذكرى تُعيد الليـالي*** في خيـــالي وعالـمي المحزون

وفي قصيدتها: \"الباب المغلق\" تتحدث الشاعرة عن باب بيته الذي أخذ منه ولم

طـال شـوق المفتاح والباب يرنو*** ويعاني صمتًا مـريرًا كئيبا

في انتـظار قد طـال منذ شهور ***لم ير الطارق الـودود الحبيبا

كلما طـاف بالمـكان أنــاس ***راح يرنو مـعذبـًا مكـروبا

عل فيـهم ذاك الـذي كان يغدو*** أو يـرى ذلك الحـبيب مجيبا

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply