الرجل الذي شغله هم المسلمين وواقعهم المؤلم عن تأليف الأسفار والكتب مع قدرته على التأليف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الشيخ محمود بن عمر مشوح

(1348/1929 ـ 1420/2000)

مفتي الفراتين، داعية إسلامي بارز، مفكّر إسلامي قدير، عالم الجزيرة السوريّة وخطيبها، وناشر العلم الشرعي في ربوعها.

ولد في مدينة الميادين إلى الشمال الشرقي من سوريّة، نشأ في أسرة متديّنة، درس مبادئ العلوم الدينيّة واللغويّة على أبيه، الذي كان عالماً ومفتيّاً، ثم توجّه إلى دمشق لدراسة العلوم الشرعيّة، إلاّ أنّه لم يتمكن من إتمام دراسته النظاميّة بسبب وفاة والده عام 1945 واستلامه منصب الإفتاء.

أكبّ على قراءة التراث العربي بجميع فروعه، واطّلع على أمّهات كتب التفسير والحديث والفقه، حتّى نضج عقله واستقام لسانه، وفاضت قريحته، واستدرك بجهوده الشخصيّة ما فاته من التعليم الجامعي، فصار مرجع الفتيا، وكانت له حافظة واعية، وعزيمة قويّة، وهمّة عالية.

وكان يعيد النظر في كل ما يكتب من آراء، وينشر من أفكار، لأنّه يؤمن بالتجديد، ولا يتورّع عن إتلافها خشية التأويل.

يروي الأستاذ فاروق مشوّح عنه ـ وكان أقرب تلاميذه إليه وأوفاهم ـ أنّه قال: لقد كتبت مجموعة ممتازة في نظريّات الحركة للعمل الإسلامي المعاصر، وقعّدت أسساً فكريّة متينة، لعلّها تفيد في انطلاقة إسلاميّة سليمة، لكنّني بعد أمور ترامت أخبارها من أوساط تدّعي ولا تعمل، وتقول ولا تفعل، وتشوّه ولا تستقيم، رأيت تأجيلها، ثم يمّمت بها النار، وأنا أنظر إليها تحترق بأسى وحسرة.

وشغله همّ المسلمين وواقعهم المؤلم عن تأليف الأسفار والكتب، فكان دائم الحديث في هذا الهم.

حمل راية الإصلاح السياسي والاجتماعي بكل ما يملك من جرأة وصراحة فنقم عليه أصحاب الأهواء، وتربّصت به السلطة فحاصرته وضيّقت عليه، ثم أغرته، فلم يزده ذلك إلاّ عزماً وتصميماً.

وقدّم للحركة الإسلاميّة في سوريّة أكثر من دراسة، ومشروع للعمل الإسلامي، وفي مقدمتها مشروعه في الثمانينات.

وحصرته دائرته البعيدة ـ المنطقة الشرقيّة ـ عن التأثير والانتشار والذيوع، وحالت دون بلوغ أفكاره أوساط المثقّفين، مع ما أفاضت عليه من المهابة والاحترام، ومنحته الاستقلال في الرأي، والتفرّغ للعلم.

 

توفي ببلدة الميادين ليلة الثالث والعشرين من شوّال 1420.

نعاه محبوه، وعارفو فضله، فكتب عبد العزيز المشوّح يقول: فقد الجميع في أبي طريف حكمة في عقل، وبلاغة في لسان، وشجاعة في جنان، وفكراً منيراً، ورؤيةً بعيدةً، ونظرة صادقةً أخذها من كتاب ربّه الذي فسّر كلماته، وشرح معانيه، ووقف فوق المنبر على مدى ثلث قرن أو يزيد، يجلّي الغامض فيه، ويوضّح ما استعجم على الألسن، واستغلق على العقول، فترك وراءه مئات الأشرطة المسجّلة في التفسير والتاريخ والأدب والسياسة والاجتماع.

وتحدّث عن جرأته وشجاعته فذكر أن رأس النظام استدعاه يوم كانت الأحداث في سوريّة على أشدّها، فأرغى وأزبد، وتهدّد وتوعّد، فقال الشيخ بكل جرأة: إنّ التاريخ والواقع لا يؤيّدان موقفك، فقد فعل غيرك أكثر من ذلك، فأعدم وقتل، وسجن وشرّد، وبعد ثمانية عشر عاماً عادت هذه البذرة للنماء والارتفاع، لأن التربة تلائمها والجو يساعدها، فالأولى أن تحقن الدماء، ويتعايش الجميع لبناء هذا الوطن ورفعته.

ورثاه الدكتور وليد المشوّح في قصيدة باكية مطلعها:

ما للفرات إذا حــدثته انتحبا  * * *  وأرسل الآه دمعاً يـحرق الغربا

ما للشواطئ تشكو النهر لوعتها * * *  كأنّـها فــقدت أمـاً لها وأبـا

 

وقال:

أبا طريـف وليت الشــعر يسعفني * * *  أوليت قافيتـي تجزيــك ما وجبا

 

فأنت كالبحــر عمقاً في معارفــه  * * *   وأنت كالشمس دفـئاً بالحجى انسكبا

 

يا ابن الأجاويد طيب الأصل منبتهم * * *  وافيـت ربّـك مرضيّاً وفيـك إبا

 

------------------------------------------------------------------

(1) مقابلة مع الأخ فاروق محمد سعيد مشوّح في عمّان عام 2000.

(2) صحيفة اللواء مقال: سوريّة تفقد علماً من علمائها بقلم: فاروق مشوّح.

(3) مجلّة المجتمع تاريخ 15/2/2000 مقال: الشيخ محمود المشوّح.. في موكب العلماء الراحلين. بقلم: عبد العزيز المشوّح.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply