مدرسة ابن تيمية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

\" شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية \"

(661هـ، 1262م ـ 728هـ، 1327م) 

 \"إنّ في الدنيا جنّة من لم يدخلها لم يدخل جنّة الآخرة. وما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنّتي في قلبي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة \"

[ابن تيمية](1)

 

تتشكل المدرسة الفكرية في الإسلام من عدة أطر: الإيمان والتوحيد، العلم بمنهاج الله، ووعي الواقع من خلال منهاج الله(2)، الداعية، المنهج الإصلاحي، الإسهامات الفكرية والدعوية …الخ، وبما أن أمر التجديد في الدعوة الإسلامية من الأمور البديهية، إلا أن هناك اختلافاً بين الدعاة في طرق التجديد والصفات اللازمة توافرها في المجدد، وليس كلّ من قام بالإصلاح يعتبر مجدداً! وقد يكون في عصر واحد ـ كما يقول بعض العلماء ـ مجددون كلّ يَسدّ ثغرة من ثغور الإسلام.

 

فمن سنن الله - تعالى -: أن يهيئ لكلّ مرحلة رجلها الذي يناسبها، وأن يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها دينها، ويعيد إليها حيويتها:

(إن الله - تعالى -يبعث لهذه الأمة على رأس كلّ مائة سنة من يُجدّد لها دينها)(3)

وقد أُثر عن علي - رضي الله عنه - قوله: \" لا تخلو الأرض من قائم لله بالحجة\". (4)

إلا أننا عندما نحصر قضية التجديد وتكوين مدرسة فكرية في إطار واحد، فأعتقد أنَّ ذلك من الصعوبة بمكان. فقد يكون الداعية مصلحاً اجتماعياً وليس بمجدد، و يملك مدرسة فكرية قائمة بذاتها لم تتوافر فيها شروط المدرسة الفكرية التجديدية، كما هو حال كثير من الدعاة اليوم.

وفي ذلك يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: \" إن التاريخ الإسلامي في كل مراحله، يبرز فيه رجال يحتاج إليهم الموقف، فيسدّون الثغرة، ويلبون الحاجة، ويقومون بالواجب المطلوب لزمانهم ومكانهم في إيقاظ الأمة، وترميم ما أصابها من البلى أو التصدّع في بنيانها. يكون الرجل المنشود إماماً أعظم كعمر بن عبد العزيز، وقد يكون أميراً أو قائداً عسكرياً مثل نور الدين محمود أو صلاح الدين، وقد يكون إماماً فكرياً ودعوياً، مثل أبي حامد الغزالي، وقد يكون مربياً روحياً، مثل عبد القادر الجيلاني، وقد يكون مجدداً فقهياً وتربوياً وإصلاحياً مثل أبي العباس ابن تيمية. فكل واحد من هؤلاء جدد فيما كان يفتقر إليه عصره وبيئته من جوانب التجديد الضرورية واللازمة …. \"(5)

فنقف في هذه الصفحات مع شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرّاني، المولود يوم الاثنين (10/3/661) والمتوفى ليلة الاثنين (20/11/728) عن سبعة وستين عاماً.

يُعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية أحد العلماء المحققين المصلحين والرواد المجدّدين، الذين أفنوا أعمارهم في العلم والتعليم، والجهاد والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (6)

 

حياته العلمية: (7)

أخذ الفقه والأصول عن والده، وسمع عن خلق كثيرين، منهم الشيخ شمس الدين، والشيخ زين الدين بن المنجّى، والمجد بن عساكر.

وقرأ العربية على ابن عبد القوي، ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه. وعُني بالحديث، وسمع الكتب الستة والمسند مرات. وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من سائر العلوم.

ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، وردّ على رؤسائهم وكبرائهم، وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين سنة، وتضلع في علم الحديث وحفظه.

ومن تصنيفاته التي تبلغ حدّا كبيراً: \" درء تعارض العقل والنقل، الجواب الصحيح ـ ردّاً على النصارى ـ، شرح عقيدة الأصفهاني، الرد على الفلاسفة، إثبات المعاد، الرد على ابن سينا، ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً والمعجزات والكرامات، إثبات الصفات، العرش، رفع الملام عن الأئمة الأعلام، الرد على الإمامية، الرد على القدرية، الرد على الاتحاد والحلولية، في فضائل أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - على غيرهما، تفضيل الأئمة الأربعة، شرح العمدة في الفقه، الدرة المضيئة في فتاوى ابن تيمية، المناسك الكبرى والصغرى، الصارم المسلول على من سب الرسول، إصلاح الراعي والرعية، منهاج السنة النبوية، الاستقامة، الفرقان، وغير ذلك \".

 

مـمـا قـالـوا عـنـه:

وترجم الذهبي لابن تيمية في \" معجم شيوخه \" بترجمة طويلة، منها قوله: \" شيخنا وشيخ الإسلام وفريد العصر علماً ومعرفةً وشجاعةً، وذكاءً، وتنويراً إلاهياً وكرماً ونصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. … …. ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذي في ذات الله - تعالى -من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحفوظة حتى أعلى الله - تعالى -مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكَبَت أعداءه، وهدى به رجالاً كثيرين من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالباً وعلى طاعته، وأحيا به الشام، بل الإسلام بعد أن كاد ينثلم، خصوصاً في كائنة التتار. وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام: أني ما رأيت بعيني مثله لما حنثت. انتهى \". (8)

 وقال الحافظ ابن كثير: \" وفي رجب سنة سبعمائة وأربع راح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجد النارنج، وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت هناك بنهر \" قلوط \" تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيماً، وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة، وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه، فُحسد وعودي، ومع هذا لا تأخذه في الله لومة لائم. ولم يبال بمن عاداه، ولم يصلوا إليه بمكروه. وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين \". (9)

وكتب الشيخ كمال الدين الزملكاني: \"كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحداً، فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء أكان من علم الشرع أم غيره إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها \". (10) 

 

مميزاته وخصائصه:

1- التجرّد.

2- الابتعاد عن السلطة والمناصب.

3- الذكاء الحادّ.

4- التبحّر في العلوم المختلفة ومعرفته بمقاصد الشريعة وكلّيات الدين، ويدرك الواقع الذي يعيش فيه.

5- الشجاعة والاستقلال الفكري وروح التجديد فيه.

6- تعدد جبهات بذله وجهاده وفي كافة الاتجاهات.

7- الحيوية المتوهجة في كتاباته ورسائله.

8- أسلوبه السهل الممتنع.

9- مجتهد، خالف الأئمة الأربعة في كثير من المسائل. (11)

10- انهماكه في العبادة وكثرة الذكر.

11- جلده وصبره مع تعدد معاركه.

 

منهجه في التجديد: (12)

1- ذكّر الأمة بقواعد الجهاد في سبيل الله، ولقد جاهد هو بنفسه.

2- وانبثق من مدرسته جيل من العلماء ساهموا في نشر الدعوة الإسلامية، كما ظهر من هذا الجيل دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والتي انتشرت في أرجاء واسعة من العالم الإسلامي.

3- ردّ الأمة إلى الدليل.

4- علّم الأمة الجهاد في سبيل الله.

5- تصدّى للمبتدعة على اختلاف طوائفها ونحلها.

6- مخاطبة السلاطين وبيان الحقّ لهم.

 

أسباب العداء له: (13)

1-الحسد.

2- المعارضة في أفكاره.

3- حدّته في مواجهة الخصوم.

4- الاجتهادات التي انفرد بها.

5- طريقته السلفية.

6- مخالفته لابن عربي الصوفي.

7- نسبة بعض الأقوال إليه، وهو بريء منها، وقد ذكر أبو الحسن الندوي بعض الكتب التي نسبت إليه وهو لم يكتبها ككتاب \" البحر المورود في العهود والمواثيق\". (14)

إنّ عالماً يفتح الله عليه بميراث النبوة، وينظر في واقع الحياة فيرى من ظلمات الإعراض عن الوحي والتنزيل ما الله به عليم: حلولية، اتحادية، طرقية بدعية، جهمية، معتزلة، أشاعرة ـ مقلّدة متعصبة، وكلّ يرى أن ما هو عليه هو الحقّ، ثمّ يأتي حامل الضياء، فيكاسر هؤلاء وهؤلاء، لاشكّ سيكون له خصوم وخصوم مما أدى إلى سجنه تارة، و الإقامة الجبرية عليه تارة، ومناظرته تارة، وتعرّضه لمحن أخرى تارة، وإغراء السفهاء، وتسليط الدهماء، وهكذا من صنوف الأذى.

ولما بلغ الثانية والثلاثين من عمره وبعد عودته من حجته، بدأ تعرضه لأخبئة السجون، وبلاء الاعتقال. خلال أربعة وثلاثين عاماً، ابتداء من عام (693) إلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق (20/11/728). وكان قد سُجِنَ سبع مرات: أربعٌ بمصر بالقاهرة وبالإسكندرية، وثلاث مرات بدمشق، وجميعها نحو خمس سنين، وجميعها كذلك باستعداء السلطة عليه من خصومه الذين نابذ ما هم عليه في الاعتقاد والسلوك والتمذهب عسى أن يفتر عنهم، وأن يقصر لسانه وقلمه عمّا هم عليه، لكنه لم يرجع.

 

فحياة هذا الإمام التجديدية، ودعوته الإصلاحية، تُعرّف لنا الإصلاح، بأنه قفو الأثر، وإحياء السنن، والتوجه مع الدليل، وإصلاح ما رثَّ من حال الأمّة بالعودة بها إلى الكتاب والسنّة، ولهذا صارت دعوته، ومؤلفاته مناراً لأهل الإسلام.

 

 ومن هنا يُعرف زيف بعض الدعوات التجديدية المعاصرة، التي شابها لوثة في الفكر والاعتقاد. فالدعوة اليوم إلى التجديد في الفقه، والتجديد في الأصول، وموازين قبول السنّة، دعوة تهدم الدين، وتضرّ بالمسلمين، وهي ليست من التجديد في شيء!

وهكذا فإن دراسة سيرة هذا المصلح لا يتأتى في هذه الكلمات، وإنما يرجع إليها في الكتب الخاصة به والتي فاقت ثمانين كتاباً بين ما كتبه مسلم ومستشرق تناولوا سيرته وجهاده.

 

وفـاتـه:

توفّي رحمة الله عليه كما سبق ذكره في سجن القلعة بدمشق، عام (728) ليلة الاثنين والعشرين من شهر ذي القعدة. ذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلّم به الحرس على الأبرجة، فتسامع الناس بذلك، واجتمع الناس حول القلعة حتى امتلأت القلعة ومن حولها بالرجال فصلّى عليه في القلعة، وثانياً في سوق الخيل. وصُلّي عليه صلاة الغائب في أمصار متعددة. وقيل حضر جنازته مائتا ألف من الرجال، ومن النساء خمسة عشر ألفاً. ودفن في وقت العصر أو قبلها بيسير بمقابر الصوفية. وحضر جنازته أكابر الصالحين وأهل العلم كالمزّي وغيره. (15)

 

----------------------------------------

(1) الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع: محمد عزيز شمس، وعلي بن محمد العمران: المقدمة.

(2) د. عدنان علي رضا النحوي: منهج لقاء المؤمنين، منهج المؤمن بين العلم والتطبيق، النظرية العامة للدعوة الإسلامية نهج الدعوة وخطة التربية والبناء.

(3)) أخرجه أبو داود و الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. صحيح الجامع الضغير وزيادته: الرقم: (1874).

(4) أبو الحسن الندوي: رجال الفكر والدعوة في الإسلام.

(5) المصدر السابق.

(6) الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية: جمع: محمد عزيز شمس، وعلي بن محمد العمران: المقدمة: ص2.

(7) راجع كتاب: \" جلاء العينين في محاكمة الأحمدين \" للشيخ نعمان خير الدين محمود الآلوسي (1317): ص: 17-31. والبداية والنهاية لابن كثير ـ المجلد الرابع عشر ـ وسير أعلام النبلاء للذهبي.

(8) المصدر السابق.

(9) المصدر السابق.

(10) جلاء العينين في محاكمة الأحمدين ـ مصدر سابق.

(11) أسرار العبقرية عند ابن تيمية لعائض القرني، ومقدمة الشيخ بكر أبو زيد على كتاب: الجامع في سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية.

(12) المصدر السابق.

(13) المصدر السابق.

(14) أسرار العبقرية عند ابن تيمية للشيخ عائض القرني.

(15) ابن كثير: البداية والنهاية، نعمان الآلوسي: في جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، وغيرهما.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply