لمحات من حياة الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني -3-


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

بعد أن استعرضنا طرفًا من حياة العلامة الشيخ- محمد بن إسماعيل الصنعاني وذكرنا نشأته وشيوخه وتلاميذه، نعرض لأهم لمحة من لمحات حياة هذا الإمام العَلَم وهي عقيدته ومذهبه، لنرى كيف كان الإمام - رحمه الله -على أصول عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم في التلقي والاستدلال.

 

ثالثًا: عقيدته ومذهبه:

أولاً: عقيدته:

قبل أن أحكم على عقيدة الصنعاني أرى لزامًا عليَّ أن أبين موقفه من مسائل العقيدة وهل اتبع فيها عقيدة السلف، أم عقيدة المخالفين، وما رأيه في الفرق المختلفة المخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة.

 

1- موقفه من توحيد الربوبية والألوهية:

لا شك أن كل مهتم بعقيدة السلف يعرف كتاب \"تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد\"، وهو كتاب جدير بأن يحتل مكانة عظيمة بين الكتب التي عالجت وفرقت بين مفهوم توحيد الربوبية والألوهية، ويعتبر الصنعاني بهذا الكتاب الذي تحدث فيه عن معنى \"لا إله إلا الله\" من أبرز من حمل لواء الدعوة إلى إخلاص التوحيد لله ونبذ البدع والضلالات والشرك والخرافات في القرن الثاني عشر، ثم تبعه الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في نفس القرن ليجهر ويجاهد ويدافع عن هذا الأمر العظيم.

ولما سمع الصنعاني بظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وعرف أنه يدعو إلى الدين الحق والرجوع إليه أرسل بقصيدته الدالية المشهورة في عام 1163هـ التي مدحه فيها وعبر عن سروره وفرحه بظهور هذه الدعوة المباركة في الوقت الذي كان يظن أنه هو وحده على هذه العقيدة، ومما قال فيها:

لقد سرني ما جاءني من طريقة وكنت أظن هذه الطريقة لي وحدي

 

وهذا يبين لدعاة التوحيد والسنة وغيرهم أن السائرين على منهج السلف تلتقي أفكارهم وتتوحد جهودهم وإن تباعدت ديارهم واختلفت أوطانهم، لاجتماعهم وأخذهم من منبع واحد هو القرآن والسنة.

 

2- موقفه من علم الكلام والمتكلمين:

لقد حارب الصنعاني علم الكلام وبين فساد منهج المتكلمين في أكثر من موطن، وقد قال عنهم في كتابه \"إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة\": \"فإذا نظرت مبادئ كلامهم في علم الكلام وكتب الحكمة في الزمان والمكان، رأيت محارات يظلم منها القلب الحي، ولا يقف منها على شيء، ولكنهم خَفوا عند رؤية كلام الفلاسفة وجعلوه عنوانا لأصول الدين\".

وكان يمتاز بتقديم النقل على العقل واتباع النصوص في مسائل العقائد وغيرها. يقول في ذلك - رحمه الله -: \"اعلم أن المختار عندي والذي أذهب إليه وأدين به في هذه الأبحاث ونحوها، هو ما درج عليه سلف الأمة ولزموه من اتباع السنة والبعد عن الابتداع والخوض فيها إلا لردها على لزوم مناهج الأنبياء، وكيف ترد الأقوى إلى الأضعف\".

 

3- مخالفته للمعتزلة و الأشاعرة ورميهم بالابتداع:

أعلن الصنعاني مخالفته للمعتزلة و الأشاعرة، وإن تأثر بالمعتزلة في خلق أفعال العباد إلا أنه انتقد المعتزلة كثيرًا، وكذلك الأشاعرة ووصفهم بالابتداع، ومن أقواله في ذلك: \"إنما قدمت هذا لئلا يظن الناظر أني أذهب إلى قول فريق من الفريقين المعتزلة والأشاعرة، فإن الكل قد ابتدعوا في هذا الفن الذي خاضوا فيه\".

 

4- موقفه من الأسماء والصفات وما يتعلق بالأمور الغيبية:

ينطلق الصنعاني في هذا الباب من منطلق سليم يتفق مع منهج السلف، ومما قال في ذلك: \"قد علم من الدين ضرورة أن لله أوصافًا كلها كمال، قال جل جلاله: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه، فالإيمان بها واجب على جميع العباد والنكير متعين على من جحدها، أو ادعى أن فيها اسم ذم لله - تعالى -، ومنها ما ثبت في الأحاديث، فمن عرف صحة الحديث المفيد لذلك وجب عليه الإيمان به\".

كما نقل كلام ابن القيم في شرحه لمنازل السائرين، وأبطل تأويل الصفات من ستة أوجه. وقال في كتابه: \"جمع الشتيت شرح أبيات التثبيت\" وهو بصدد الحديث عن سؤال الملكين وما يتعلق بأمور الآخرة \"...فيجب قبول ما أخبر به من أمور الدارين وتلقيه بالتصديق وحمله على اللغة العربية من غير تحريف، فإن فهمت المقالة فيا حبذا، وإن لم تفهم فلا تقل نؤوله بكذا ولا بكذا، بل تكل فهمه إلى قائله، وتتهم فهمك القاصر، وتسأل الله أن يعلمك ما لم تعلم فهو على كل شيء قدير، وما أحسن ما قاله ابن القيم - رحمه الله -: \"ينبغي أن يفهم عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمل، ولا يقصر به عن مراده، وما قصد به من الهدى والبيان، وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله\".

ومع هذا فقد وقع من الصنعاني في بعض المواطن ما ينتقد عليه، فقد نقل كلام المقبلي بصوابه وخطئه وسكت عنه، كما لم يحقق موقف ابن تيمية في مسألة الجهة- غفر الله لنا وله-.

 

5- حبه لجميع أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -:

قد يظن البعض أن الصنعاني لنشأته في بيئة زيدية يذهب إلى بعض أقوال الروافض، وقد ذهب إلى ذلك الدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر حينما نسب الصنعاني إلى التشيع، ووضع قوله إلى جانب قول الروافض، وهذا تحامل شديد على هذا الإمام العالم وهو بريء منه، وقد رد الدكتور أحمد العليمي على الدكتور المذكور في ذلك. ولقد عاش الصنعاني محاربًا في بلده ووطنه لمخالفته لما هم عليه من التشيع والرفض حتى أنهم رَمَوه بالنصب. وهو من آل البيت، ويسجل لنا ديوان الصنعاني رسالة أرسلها إلى أحد تلامذته وهو العلامة أحمد بن محمد قاطن، في شأن الرجل الذي دخل صنعاء، وكان من العجم، فسب الصحابة ونال منهم، وحزن الصنعاني لذلك وكتب رسالة إلى تلميذه المذكور ومما جاء فيها: \"فاقرة في الدين، قاصمة لظهور المتقين، ومصيبة في الإسلام لم يطمع في وقوعها إبليس اللعين، ومكيدة في الإسلام أسست بآراء جماعة من الأفدام\". وهي ظهور الرفض وسب العشرة المشهود لهم بالجنة على لسان الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله الطاهرين حاشا عليا أمير المؤمنين، ويستمر الصنعاني في رسالته فيذكر أنه حصل للعجمي هذا قبولٌ عند الخليفة المنصور، وأمره أن يملي نهج البلاغة وشرحه لابن أبي الحديد على الكرسي في الجامع الكبير إلى أن قال: \"ومازال كل ليلة يسرد من هذا حتى ذكر أنه حرف القرآن بعض الصحابة، فسب الصحابة العامة من الناس، ولعنوا أعيان أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وحاصله أنه لم يبق مذهب من مذاهب العجم إلا دسه\".

 

6- ثناؤه على أئمة أهل السنة والجماعة:

من المعلوم أن من أمارة أهل البدع الوقيعة في أهل السنة وتنقيصهم ورميهم بما ليس فيهم حقدًا وبغضًا، وهذا شأن المبتدعة في كل زمان ومكان. وما قاله الكوثري عن أعلام السلف ليس منا ببعيد. أما أهل الحق والهدى فيعرفون لسلف هذه الأمة والسائرين على منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - فضلهم ومكانتهم، ومن هنا نجد الصنعاني يثني كثيرًا على ابن تيمية وابن القيم، فوصف ابن تيمية بالعلامة شيخ الإسلام، وبتبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف

وقال عن ابن القيم: \"إنه الذي أتى بنفيسي العلم في كل ما يبدي\"، ولما سمع بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فرح كثيرًا بظهوره، وما ذلك إلا أنه لأنه يحب عقيدة السلف ويجاهد لنشرها ويرغب أن يعم خيرها البلاد والعباد، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك.

وكما كان يثني على السلف كان يحذر ويذم أهل البدع والضلال. يقول الأستاذ قاسم غالب و رفقاه عن الأمير: \"ولم يكتف ابن الأمير بدارسة الكتب التي تخدم مذهبه ولكنه كان لا يقع على كتاب ينحرف فيه صاحبه عن القصد، حتى يلفت النظر إلى انحرافه، ويدعو مدرسته إلى الاحتراس منه، قرأ كتاب \"الإنسان الكامل\" للجيلي فأرسل وراءه قصيدة يقول فيها:

هذا كتاب كله جهل

وخلاف ما جاءت به الرسل

قد ضل أقوام برؤيته

فغدوا وليس لدينهم ظل

 

وبعد: فها هي الأصول والقواعد التي كان عليها الصنعاني ودعا إليها وسار عليها من خلال ما سطره هو في كتبه، فأين نضع الرجل بعد ذلك؟ لا يمكن أن يكون إلا من أهل السنة والجماعة الذين كانوا على عقيدة السلف وساروا عليها، وجاهدوا وحوربوا من أجل التمسك بها في عصر لا يعرف إلا الجهل والخرافة.

وقد يقول قائل: للصنعاني بعض المخالفات للسلف كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الصفات وكمسألة خلق أفعال العباد.

أقول: الصنعاني حاول جاهدًا تحرير هذه المسألة، ولكنه لم يتمكن وهو وسط هذا الجو الخانق من معرفة الحق فيها، ومع هذا فهو رجح ما ترجح عنده دون متابعة لفرقة معينة أو مذهب معين، وقد سبق بيان عدم متابعته للمعتزلة و الأشاعرة، وأحيانًا تقوم بالعالم شبهات لا يتمكن من التخلص منها، لعدم الموجه الصادق أثناء الطلب، ولعدم توفر كتب السلف والعاملين بها كما في بيئة الصنعاني.

 

ثانيًا: مذهبه:

مذهب الصنعاني يلتقي مع عقيدته، فليس له مذهب إلا ما جاء في الكتاب والسنة، لذلك تجده يدعو إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، ويؤلف كتابًا خاصًا في ذلك ليعالج قضية الاجتهاد والتقليد، ولقد فند في كتابه حجج المانعين للاجتهاد مبينًا أن التعصب للمذهب هو الذي دفعهم إلى ذلك، وعاد إلى تعظيم السنن والانقياد لها وترك الاعتراض عليها، ومن أقواله في ذلك: \"وقد منع أئمة الدين معارضة سنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - بأقوال غيره من الأئمة المجتهدين\".

ونقل عن الشيخ محمد حياة السندي قوله: \"فمن تعصب لواحد معين غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه دون الأئمة الآخرين فهو ضال جاهل، بل قد يكون كافرًا يستتاب، فإن تاب و إلا قتل، فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد معين من هؤلاء الأئمة - رضي الله عنهم - دون الآخرين، فقد جعله بمنزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك كفر\"

ومن هذا المبدأ انطلق الصنعاني - رحمه الله - في علومه ومؤلفاته يأخذ ما يؤيده الدليل ويترك ما سواه، ويناقش ويرجح ويجمع ما أمكن بين الأدلة كعالم مجتهد له مكانته ومنزلته، وإن كتابه سبل السلام لخير شاهد على ما أقول وهو معروف ومتداول بين طلبة العلم.

تظهر مكانة الصنعاني في سلوكه لهذا المنهج لمن نظر وتتبع حالة المجتمع الإسلامي وما وصل إليه من خرافة وتقليد في زمنه، فإذا ظهر رجل في وسط هذا المجتمع بهذا الفكر النير، وهذه الدعوة التي ترد كل شيء إلى الكتاب والسنة في الأصول والفروع، كان هذا دليلاً على صحة مذهبه ودعوته، وقد ذكر أبياتًا من الشعر تبين منهجه فقال:

لا يسأل الملكان من حل الثرى

إلا عن المختار من عدنان

لا عن مذهب أحمد أو مالك

والشافعي ومذهب النعمان

كلا ولا زيد ولا عمرو فدع

كلا وتابع واضح البرهان

هذا ووال المسلمين جميعهم

وقل الجميع لأجله إخواني

واستغفر الله العظيم لكلهم

فبذا أتاك الأمر في القرآن

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply