مفتي الديار الأمريكية \ البدوي الإنجليزي\ مانع الجهني .. الداعية المتجول!


  

بسم الله الرحمن الرحيم

هناك رجال يصنعون الأحداث.. وهناك من تصنعهم الأحداث.. وبعض الرجال الذين يرحلون ـ وما أقلهم في عالمنا الإسلامي ـ يتركون فراغاً لا يستطيع أن يملأه الكثيرون.

 

وهكذا كان الدكتور مانع بن حمَّاد الجهني، الداعية الفارس، الرجل الموسوعي المتجول، الذي عرفته ساحة الدعوة مفكراً عميقاً، وعالماً موسوعياً، وداعية يملك أدوات التأثير، وخطيباً مفوهاً، وإدارياً محنكاً، رجل دعوة لا رجل سلطة، يعيش حياة البسطاء من الناس، لا يتكلَّف ولا يتصنَّع، رجل تلقائي عفوي، يعيش على الفطرة. رحل فبكى عليه الجميع..

 

لقد كان ـ حقاً ـ الدكتور مانع \"لا مانع\" هكذا أطلق عليه من اقتربوا منهº لأنه لم تقدم له ورقة أو طلب أو معروض أو أي شيء إلا وكتب عبارته المشهورة \"لا مانع\"، فأطلق عليه \"مانع.. لا مانع\"..

 

رجل أفنى حياته في خدمة الدعوة، وكرَّس جلّ وقته في خطب ود الفقراء والمحتاجين والأرامل واليتامى، فدخل قلوبهم، لم تغيره المناصب ولم يسع إليها يوماً، بل كان يعيش حياة التقشف بين أسرته، وبين جدران مكتبه المتواضع.

 

رحل الدكتور\"مانع الجهني\" بعد حادثة مشهورة تعرَّضت لها خزينة الندوة العالمية للشباب الإسلامي، عندما سطا عليها بعض اللصوص المحترفين، وكسروها وأخذوا ما بها، وحاولوا الفتك بالحارس \"وزير\"، وجاء د. مانع ورأيت الحزن في عينيهº لأنَّ هذه أموال أيتام وفقراء ومساكين، لا أموال أحد، واحتسب الرجل أمره عند الله، وفي اليوم الثاني وهو في طريقه للمطار، انقلبت به السيارة عدة مرات، ليلقى وجه ربه راضياً مرضياً.

 

مات الدكتور مانع الجهني \"60\" عاماً بعد حياة حافلة بالعطاء الدعوي، مفكراً وأديباً، وخطيباً متجولاً، يملك ناصية الكلم، وعمق الفكرة، وغزارة الطرح.

 

وحياة الدكتور مانع الجهني ومسيرته في حاجة إلى من يتصدى لها من الباحثينº ليكتبها ويخرجها إلى النورº لأنَّها سيرة رجل أوقف حياته وعلمه وفكره وكل وقته لخدمة هذا الدين.

 

البدوي الانجليزي!

أطلق على الدكتور الجهني العديد من الألقاب.. \"الداعية المتجول\"، \"الفارس الداعية\"، \"البدوي الانجليزي\"، \"صاحب اللحية والعقال الذي يتحدث الإنجليزية بطلاقة\" و\"مفتي الديار الأمريكية\".

 

وقد ولد الدكتور الجهني في عام الثلج ـ سنة الثلج كما كان البدو يطلقون عليها ـ وهي تتفق مع العام 1363هـ تقريباً، كما جاء في مذكراته التي سجلها بصوته على شريط \"كاسيت\"ضمن سلسلة الشخصيات المؤثرة في الحياة المعاصرة في المملكة العربية السعودية، والتي تقوم بتسجيلها مكتبة الملك عبدالعزيز، وهو ينتمي إلى قبيلة جهينة وفخذ مسكة وفرع نما، وقبيلة جهينة تتمركز في المنطقة الواقعة بين المدينة المنورة وينبع، على الساحل الغربي، في مدينة العيص، وتحديداً في أرض \"بلى\" بين العيص والعلا..

 

وبعد ولادته أصيب والده بألم في عينيه عانى منه معاناة شديدة، ولم يكن يتوفر العلاج في المملكة، فاضطر للسفر إلى الأردن بحثاً عن العلاج، وكان عمر الدكتور مانع يومئذٍ, من 3 ـ 4 سنوات، واستمر وجودهم في الأردن حتى عام 1377هـ، وفي هذا الوقت توفيت والدته.

 

وفي الأردن دخل كُتّاب \"بني عطية\" مدة سنة، في منطقة تسمى \"الموجب\" جنوب البلاد، ثم التحق بمدرسة نظامية مدة سنة، وبعد العودة إلى المملكة العربية السعودية دخل الصف الخامس الابتدائي، ثم عمل بوزارة الصحة في إدارة مكافحة الملاريا لمدة ستة أشهر، وانتقل إلى وزارة البرق والبريد والهاتف، وتسلم راتباً مقداره مئتا ريال في الشهر، وفي مدينة الطائف حصل على الثانوية، وكان يدرس في القسم الليلي ويعمل في النهار، وكان ترتيبه الأول دائماً، وفي الثانوية العامة جاء ترتيبه السابع مكرر على مستوى المملكة.

 

عشق الهندسة، وكان يريد أن يكون مهندساً، ونظراً لعدم وجود مدرسة ليلية علمية، اضطر لدخول القسم الأدبي.

 

تزوج أولى زوجاته عام 1385هـ في مدينة الطائف، ثمَّ انتقل بأسرته إلى الرياض، وبعد أن رزقه الله بثلاثة من الأبناء، وأخذ يدرس في النهار ويعمل في الفترة المسائية في وزارة المواصلات، والتحق بجامعة الملك سعود، وحصل على البكالوريوس بتقدير يؤهله للابتعاث للخارج لاستكمال دراسة الماجستير والدكتوراة.

 

ومن رعي الغنم مع بدو بني عطية في الأردن، وحياة البادية في العيص والطائف، والمدنية في الرياض، انتقل مانع الجهني إلى الولايات المتحدة للدراسة في جامعة انديانا وسط الولايات المتحدة الأمريكية.

 

وخشي الدكتور الجهني أن يصحب معه زوجته وأولاده إلى أمريكا، فقد كان هناك حظر تصدير النفط الذي اتخذه الملك فيصل - رحمه الله -، فيقول: \"خفت أن آخذ أولادي معي لواشنطن حتى لا يعصرونا ليخرجوا منا النفط\"!

 

وبانتقاله إلى انديانا بدأ حياة جديدة مع الطلاب العرب المسلمين هناك، وأول ما وجده أنَّه لا أحد يصلي، ولا يوجد مسجد، ولا مركز إسلامي، والطلاب يجهلون أمور دينهم، وعندهم استعداد تام للذوبان في المجتمع الأمريكي، وفي \"بلومنجتون\" حيث تقع الجامعة يوجد 40 ألف طالب، فبدأ الدعوة في أوساط الطلاب العرب والمسلمين، الذين وجدوا فيه الطالب ذا الثقافة الإسلامية، الحافظ لكتاب الله، والذي لديه العلم الشرعي.

 

مفتي الديار الأمريكية!

التف الطلاب حوله، فاتخذوه إماماً وشيخاً لهم، ويقول عن هذه الفترة: \"فجأة وجدت نفسي شيخاً أو مفتياً للديار الأمريكية، رغم علمي القليل الذي درسته على يد مشايخي في المملكة، ومن أبرزهم الشيخ \"عبد الرؤوف الحقاوي\" - رحمه الله - والشيخ \"عبدالله بن جبرين\".

 

زادت أعداد الطلاب المصلين، وبدأ التفكير لإقامة صلاة الجمعة، فتمَّ استئجار مكان أطلقوا عليه \"بيت الطلاب\"º لأداء صلاة الجمعة فيه، ثمَّ أداء الصلوات الخمس، ثمَّ بدأت التفكير في إنشاء وتأسيس مركز إسلامي في \"بلومنجتون\"، والذي صار بعد ذلك مركزاً للدعوة الإسلامية.

 

استمر في الولايات المتحدة لمدة تسع سنوات، حصل على الماجستير ثمَّ الدكتوراة، وعُرف خلالها بنشاطه الدعوي الدؤوب على مستوى الولايات المتحدة، فساهم في بناء المساجد وتأسيس المراكز الإسلامية، وأنشأ \"رابطة الشباب المسلم العربي\" الذي صار فرعاً لاتحاد الطلاب المسلمين في أمريكا وكندا، والذي انتخب الدكتور الجهني رئيساً له لفترتين متتاليتين، إلى جانب كونه رئيساً لاتحاد الطلاب في بلومنجتون.

 

تعرَّف على الندوة العالمية للشباب الإسلامي خلال مشاركته في مخيم أبها الذي أقامته الندوة، وعندما عاد التحق بالعمل فيها وصار أميناً عاماً مساعداً، ثم اختير أميناً عاماً لها لمدة 18 سنة حتى توفاه الله.

 

و\"البدوي الانجليزي\" لقب أُطلق على الدكتور الجهني، نظراً للغته الإنجليزية الممتازة، التي يجيدها كأهلها كتابة وتحدثاً وتأليفاً، فهو الحاصل على درجة البكالريوس في الأدب الانجليزي من جامعة الرياض ـ الملك سعود حالياً ـ والماجستير والدكتوراة من جامعة انديانا في اللغة الإنجليزية وآدابها، ومن القلائل في العالم العربي الذين برزوا في هذا التخصص.

 

عمل في عام 1402هـ أستاذاً مساعداً ثم أستاذاً مشاركاً في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الملك سعود، ومتطوعاً في الندوة العالمية ثم أميناً عاماً مساعداً، فأميناً عاماً لها، اختير في عام 1417هـ عضواً بمجلس الشورى، ثمَّ أعيد اختياره لفترة أخرى.

 

له دور كبير في المجال الدعوي باللغة الانجليزية، حيث أطلق عليه اسم \"الشيخ\" صاحب اللحية والعقال، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة، وله مساهماته العلمية في الإشراف على تأليف وترجمة العديد من الكتب والرسائل العلمية باللغة الإنجليزية، ومن مؤلفاته: \"حقيقة المسيح، الصحوة الإسلامية، نظرة مستقبلية، مشكلات الدعوة والداعية، عقيدة أهل السنة والجماعة، التضامن الإسلامي، الفكرة والتاريخ، الأربعون الشاملة، ترجمة لمعاني القرآن الكريم بالإنجليزية\"، إضافة إلى العديد من الكتب والرسائل الأخرى، وله مؤلفات أدبية منها: معالم القص، معالم كتابة المقالة.

 

كان الدكتور الجهني عضواً في العديد من الهيئات والمؤسسات الإسلامية العالمية العاملة في مجال الدعوة والإغاثة، فهو عضو في الهيئة الإسلامية العالمية الخيرية في الكويت، وعضو في مجلس إدارة الهيئة العالمية للتعريف بالإسلام عبر الإنترنت، وعضو مجلس الرئاسة في المجلس العالمي للدعوة والإغاثة بالقاهرة، وعضو اللجنة التنفيذية للهيئة العليا للتعريف بالإسلام في قطر، وعضو اللجنة التحضيرية للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في المملكة العربية السعودية، ورئيس لجنة الشباب في المجلس العالمي للدعوة والإغاثة، وعضو مجلس إدارة مؤسسة القدس، وعضو مجلس إدارة ائتلاف الخير.

 

مع أسرته:

وكان للدكتور مانع الجهني ثلاث زوجات، ورزقه الله ثمانية عشر ولداً ما بين ذكور وإناث، وكان رجلاً عدلاً كما تقول زوجته الثالثة \"هدى عافشي\"، ذا حنان وعاطفة مع أطفاله، يتنزه معهم ويقصّ عليهم الحكايات ويشاركهم اللعب.

 

يساعد الابن الأكبر، ويحتضن الطفل الصغير ويذاكر له دروسه، كان ينبوعاً من الحنان، يحب أطفاله ويداعبهم ويحكي لهم القصص ويلقي الأشعار، يأخذ إجازة العطلة فيذهب بهم إلى الأماكن المقدَّسة للعمرة، ثم يخرج معهم إلى البر يداعبهم ويلاعبهم، وعندما يعتمر مع أبنائه كان يسير بجوارهم يدعو ويعلمهم المأثور عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأدعية.

 

قليل العواطف!

وكان الدكتور مانع الجهني ـ كما تقول د. هدى عافشي ـ قليل التعبير عن عواطفه، ولا يرفع صوته إلا نادراً، يتكلم بهدوء، فتعرف من عينيه ماذا يريد..

 

وتقول زوجته: لا أنسى ذلك اليوم عندما سالت من عينيه الدموع وبكى من أجل ابنة له صادفتها بعض المشكلات، وقليلاً ما كان يبكي، وكان لا يرتاح أبداً، سواء في حله أو ترحاله، فهذا الابن يعرض عليه مشكلته، وذاك يطلب منه المساعدة، وهذا يستوضح منه ماذا فعل في أمر من أموره، وكان يجيب على كل واحد منهم بهدوء واتزان.

 

كان رجلاً سهلاً يسيراً، ليناً مرحاً، يأكل ممَّا يقدَّم له، ليس بالفظ ولا الغليظ، ولا من مطالب خاصة له، بل دائماً يشكر الله، وإذا رأى عدم وجود طعام معد لهº يقوم ويعد هو الطعام بنفسه، وإن أعجبه الطعام مدحه، وإن لم يعجبه يأكل ولا يعيبه، يقتنع بأقل القليل، ويكره الإسراف في كل شيء في اللباس والثياب والأثاث وغير ذلك، يغضب إن اشتري له الغالي، وإن خُدم شكر، وإن لم يُخدم قام بنفسه يخدم نفسه دون نقد أو تجريح.

 

وتضيف قائلة: كان - رحمه الله - يحب الطيب من الطعام ويحب أن يأخذ قسطاً جيداً من النوم إن لم يكن ملتزماً بعمل ما، ويأنس باللطيف من القول، خاصة إن كان شعراً أو حكماً أو أمثالاً، وكان دائماً يردد: \"أنا لست ماهراً في التعبير عن مشاعري، فأنا بدوي لم أعتد رقة القول\". كان يكره الثرثرة وكثرة السؤال. إن تكلم فباختصار، وإن ألقى محاضرة أو خطبة فالإيجاز بغيته دائماً، يتبسَّط مع الأهل والأصدقاء الحميمين له، وكان يحب كثيراً حضور دورية الأربعاء، حيث يلتقي أصدقاء الدراسة والإخوة الأحباء له. وكان يقول عن نفسه إنَّه شخص خجول وعاطفي، ولكنه يؤكد أنه واقعي في نظرته إلى الأمور.. وقد كانت لديه ثقة بنفسه وبقدراته وبمعلوماته، ولكنه جُبل على تواضع جم جعله محبوباً من الجميع، الكبير والصغير، القريب والبعيد، الغني والفقير، حتى أولئك الذين خدموا في بيته حزنوا كثيراً على موته (- رحمه الله -)º لأنَّه لم يرفع صوته عليهم قط، ولم يكلفهم بشيء إلا نادراً وباليسير من الأمور.

 

كان - رحمه الله - حريصاً على أن يحفظ أولاده القرآن الكريم، وقد كان دائماً يشجعهم بمكافآت مالية كلما أتموا حفظ جزء من القرآن، وكان حريصاً على لقاء الجمعة مع أولاده، حيث يجتمع معهم كباراً وصغاراً بعد صلاة الجمعةº لتدارس القرآن الكريم والحديث الشريف، كما كان - رحمه الله - يحفزهم دائماً على التبرع لصالح المسلمين، وكم كان يفرح حين يناوله أولاده الصغار تبرعاً ولو بريال واحد.

 

زوجاته:

يقول الدكتور الجهني: \"أقبل من زوجاتي ما يستطعن عمله وأشكرهن عليه، وما لا يستطعن عمله لا أحاسبهن عليه، حتى ولو كنت في حاجة إلى هذا الأمر\"، وفي برنامجه اليومي كان يبدو ابن الثلاثين من عمره في نشاطه وحيويته، يقوم مبكراً قبل الفجر، يصلي ويتهجَّد ويدعو، ثم ينزل للمسجد مع الأذان، وغالباً يمشي بعد صلاة الفجر نصف ساعة، وأحياناً ساعةº لتقليل الوزن وتعديل نسبة السكر، ثم يعود فينام قليلاً لينهض من جديد للذهاب إلى عمله، وعندما يكون لديه بحث أو كتابة مقال يقوم لكتابته، وغالباً لا ينام بعد الفجر، بل يجلس ليكتب، وبعد عودته من عمله يتناول الغداء ويستلقي قليلاً حتى يؤذن لصلاة المغرب، فيجمع أشياءه ويأخذ حاجاته ذاهباً إلى عمله في الندوة، ولا ينسى أن يمر على إحدى المكتبات، خاصة المستعملة فيشتري الكتب، وكان الكتاب دائماً بجواره، فهو سحره الذي لا يقاوم.

 

العدل بين الزوجات:

تقول الدكتورة هدى عافشي: كان الدكتور مانع يعدل بين زوجاته الثلاث، وكان المبيت في كل بيت من بيوته الثلاثة على الترتيب أمراً مهماً لا يحيد عنه أبداً، حتى إن كانت الزوجة غائبة ما دام الأولاد موجودين، وأذكر أنه أصيب ذات مرة بآلام شديدة في ظهره وقدميه، جعلت تحركه صعباً جداً، ولكنه تحامل على نفسه لينتقل إلى منزله الآخر حرصاً على العدل.

 

وكان يسر جداً إذا جاء بكتاب جديد، وكان من عادته أن يقرأ كثيراً قبل أن ينام، ثمَّ إذا جاءه النوم وهو ممسك بالكتاب ويقرأ يضعه جانبه، وإذا جاء من الخارج جلس في صالة المنزل حيث توجد أكوام الكتب والصحف بجانبه، فيقلِّب فيها، وكانت النساء تضجّ بسبب تفضيله للكتاب والقراءة، ولم يكن فقط قارئاً جيداً سريعاً في قراءته واستخلاصه للمعنى، بل كان مشترياً غير عادي للكتاب، فلم أر أحداً مثله في كثرة جمعه للكتب وشرائه لها، يدفع الغالي والرخيص من أجل الكتب، ويقف في المكتبات ومحلات بيع الكتب الساعات والساعات، ناسياً نفسه من أجل الاطلاع على الجديد في عالم الكتب، ونادراً ما يخرج من مكتبة من دون أن يكون قد اشترى ولو كتاباً واحداً.

 

ولا أنسى كيف كان ـ في كل رحلة يسافر فيها ـ يسأل أول ما يسأل عن محلات الكتب الموجودة في المنطقة التي يزورها، ثم يستأذن رفقاءه إن كان معه رفقة ويخبرهم أن تنزهه في زيارته للمكتبة، ويقضي الساعات هناك ويعود محمَّلاً بصناديق من الكتب يقوم بترتيبها وتربيطها بكل اهتمام، ويقول: هذه الكتب أحبابي.

 

وكان من بين القلائل في المملكة الذين يملكون كمية ضخمة من الكتب في مختلف المجالات، سواء في الدراسات الإسلامية أو الأدب العربي أو التاريخ أو الدعوة، وإنَّ ما لديه من كتب في الدعوة باللغة الإنجليزية كثير جداً، كما أن لديه عدداً ضخماً من كتب الأدب الإنجليزي واللغة الإنجليزية، حيث كانت اللغة الإنجليزية تخصصه في الدراسة، وكان الأدب هوايته، ثم إنه كان محباً شغوفاً بقراءة الشعر، وكان - رحمه الله - يحفظ كثيراً من القصائد المشهورة، ومن الأبيات التي كان يتمثَّلها دائماً قول الشاعر:

 

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجـــوم

 

فطعم الموت في أمر حقـير

كطعم الموت في أمر عظيم

 

وكم كان يسر حينما تقرأ عليه قصائد يحبها.. وكثيراً ما كنا نمضي الوقت في قراءة كتب نختارها من مكتبة المنزل ليقرأها وإحدى زوجاته.

 

كان مانع - رحمه الله - ورعاً يخشى الله في كل صغيرة وكبيرة.. فقد كانت صلاة المسجد بالنسبة له أمراً أساسياً لا يفوته حتى حين يكون مريضاً.. كان حريصاً على الصلاة متى حان وقتها، فتراه يبحث عن مسجد في أي مكان يكون فيه ليؤدي صلاة الجماعة، وحتى عند سفره إلى الخارج كان يصلي متى حانت الصلاة، سواء في مطار أو مجمع تجاري أو مستشفى، لا يعبأ بنظرات المارة، بل يشعر بالفخر لأنه يؤدي طاعة لله - تعالى -، وكان يقول لي: هم يعملون المنكرات علناً ولا يستحون، أفنستحي نحن من عبادة الله أمامهم؟ وكان أول ما يهتم به في السفر إذا نزل فندقاً أن يطلب منهم إيقاظه لصلاة الفجر، كما كان حريصاً على قراءة القرآن الكريم وفهمه وقراءة التفسير، وإنَّ ترجمته للقرآن الكريم مع أحد الأخوة الأمريكيين المسلمين لهو أكبر دليل على اهتمامه بكتاب الله.

 

وكان ورع د. مانع - رحمه الله - يظهر جلياً في تعامله مع الناس، فلا تسمعه أبداً يغتاب أحداً أو يحسد أحداً أو يتكلم عن أحد إلا بخير.

 

وتقول زوجته: كان قليل الكلام، يتمثل دائماً قوله - صلى الله عليه وسلم -: \"كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع\" ثم إنَّه كان واصلاً لرحمه، حنوناً على أقربائه، رأيته كيف يعامل زوجة أبيه ويخدمها وكأنها أمه، وكيف يساعد إخوانه من أبيه وأخواته بكل حب ورضا وكأنهم أبناؤه، حيث كان الأخ الأكبر للجميع.. ولا أنسى كيف كان يهتم عند زيارته للمدينة المنورة أو الطائف بزيارته إخوته هناك، حتى إنه عندما زار الطائف قبل يومين فقط من وفاته - رحمه الله - كان جلّ اهتمامه زيارة شقيقه الوحيد هناك.

 

كان يحترم أصهاره ويقدرهم ويقبل رؤوس آباء وأمهات زوجاته حين يلقاهم، ويحرص على إجابة دعواتهم وزيارتهم بين الحين والآخر، احتراماً منه وتقديراً لهم، فكانوا لذلك يحبونه حباً جماً ويقدرونه ابناً باراً وأخاً كريماً. وقد حضرته أيضاً قبل وفاة أبيه - رحمه الله تعالى - حين مرض والده وأدخل المستشفى، كيف كان يحرص هو على النوم في المستشفى، وإن لم يستطع يطلب من أحد أولاده الكبار فعل ذلك، ثم إنه منذ صغره فقد والدته، وعمل ودرس في وقت واحد ليكفل حياة طيبة لأبيه الذي كان لا يستطيع العمل.

 

رحم الله د.مانع الجهني، الفارس الداعية المتجول، الرجل الذي وقف كل حياته ليخدم الفقراء وأبناء الأمة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply