علال الفاسي العالم العامل والمجاهد القائد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

علال الفاسي شخصية عربية إسلامية كبيرة وداعية إلى الله على بصيرة، وكان ما يزال ملء السمع والبصر، علماً، وخطابة وفصاحة، وأدباً، وشعراً، وجهاداً دؤوباً في سبيل الله - تعالى -، من أجل نصرة دينه، ورفع الحيف والظلم عن أمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومن أجل تحرير وطنه المغربي وسائر أوطان المسلمين الرازحة تحت نير الاستعمار الأوروبي الغاشم، وخاصة فلسطين التي كانت في قلبه وعقله وضميره، فلسطين التي اغتصبها الإنكليز، ثم سلموا جثمانها الطاهر المبارك إلى بني صهيون.

 

علال الفاسي عالم مجدد، وشخصية شمولية متعددة المواهب والجوانب، ومفكر إسلامي رحب الآفاق، بعيد الرؤى واضح الرؤية والأسلوب والتفكير والتنظير والتقدير، وهو واحد من رواد جيل العمالقة، حسن البنا، والمودودي، والندوي، والسباعي، وقطب، والنورسي، بنزعته الإنسانية، وتوجهه الفكري، وأسلوبه العلمي الأدبي، وقدرته الفائقة على الخطابة والبيان، وبسلفيته الممزوجة بالحركة والسياسة والتنظيم.

 

ولكل ما تقدم، كان من الصعوبة بمكان، الإلمام بشخصيته الفذة في مقال مهما طال، فقد كتب الكاتبون عنه كتباً ولم يوفوه حقه.

 

أسرته:

ولد علال في مدينة فاس في كانون الثاني سنة 1910 من أسرة عربية مسلمة، تعتز بعروبتها وإسلامها وجهادها في سبيل الله، هاجرت من الأندلس إلى المغرب، واستقرت في مدينة فاس، وإليها انتسبت فقيل: الفاسي، وأحياناً: الفهري، نسبة إلى قبيلة بني فهر العربية المجاهدة، وهي أيضاً أسرة علم وفضل ودين، فأبوه عبد الواحد كان من كبار علماء الغرب، وكان مدرساً في جامعة القرويين، وكان قاضياً، ومفتياً، وكذلك كان أجداده من العلماء والقضاة والمجاهدين.

 

تعليمه:

بدأ حياته الدراسية على يد أبيه العالم الجليل أولاً، ثم أرسله إلى (الكتاب) فتعلم فيه مبادئ العلوم العربية، وحفظ قسطاً من القرآن الكريم، ثم درس في القرويين إلى أن نال شهادة العالمية عام 1932، وكان فيها من المتفوقين، ذلك أنه لم يكتف بالكتب المقررة، وهي مهمة وكثيرة وكبيرة، بل أضاف إلى المقرر ما كان يجده في مكتبة أبيه العامرة بالكتب فيدرسها بعمق، حتى تحصلت لديه ملكة علمية قادته إلى التضلع بعدد من العلوم العربية والتاريخية والشرعية والفلسفية، جعلت منه عاماً دقيقاً في أبحاثه، ومفكراً من كبار المفكرين الإسلاميين، وخطيباً مفوهاً ناصع البيان شاعري الفكري عذب الأسلوب.

 

العوامل المؤثرة في تكوينه:

 

والده:

لقد عني أبوه بتربيته التربية العربية الإسلامية التي يرضى عنها الله - تعالى - وتؤهله لخدمة دينه ووطنه وشعبه وأمته ويكون بها ماجداً وعاملاً لاستعادة أمجاد أمته وإسلامه، رباه على الشجاعة والإقدام وعدم الخوف إلا من الله العزيز الجبار، ورباه على الجود والكرم، وعلى الجرأة في قول الحق والاتزان في إصدار الأحكام في تأن وروية، ورباه على الاستقامة في السلوك والاستقامة في الفكر، وعلى الدأب في العمل، وإتقان ما يوكل إليه منه.

 

رباه على حب الوطن، والجهاد في سبيل إنقاذه من براثن الاستعمار مهما كلفه ذلك من ثمن.

 

البيئة الاجتماعية:

بيئته التي تنفس فيها طفلاً وفتى يافعاً وشاباً نشأ بها في طاعة الله.. بيئة (فاس) المدينة العربية المسلمة، وبيئة (القرويين) العلمية الأدبية المجاهدة التي كان يدرس فيها أبوه، فتعاونت مع أبيه ومع علمائها الأفاضل على تكوين شخصية القائد الزعيم والعالم المجدد، والمجاهد المقدام المستبسل في سبيل ما آمن به: علال الفاسي.

 

فعلال ابن (القرويين) وسليل أسرة علمية تعتز بإيمانها وإسلامها وعروبتها، وطالما كافح أبناؤها العلماء للحفاظ على عقيدة الأمة، ونشر الإسلام بمبادئه ومكارم أخلاقه.

 

هذه البيئة التي جعلت عشقه للحرية عشقاً شاعرياً، وعقلانياً، وكارهاً للاستبداد والمستبدين. وحكم الحزب الواحد، والاستئثار بالحكم دون شورى وبرلمان وانتخابات.

 

جمال الدين الأفغاني:

وكان لجمال الدين الأفغاني دور كبير في تبلور شخصية المجاهد علال، وذلك من خلال التعاليم والأفكار التي نادى بها الأفغاني، وكلها أفكار ثائرة بالاستبداد والتخلف والجمود والرضوخ للإقطاع والحكام المستبدين.

 

الدعوة السلفية:

ومما أثر به أيضاً بالإضافة للشيخ الأفغاني الدعوة السلفية التي نادى بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لتتخذ على يده صبغه جديدة تتسم بطابع الشمول لكل جوانب الفكر والروح والعمل، فأصبحت تهتم بالبناء إلى جانب اهتمامها بالهدم، وتبلورت في دعوة قوامها التجديد المطلق لكل مظاهر الحياة الإسلامية للعقل والدين والعلم وطريقة المعاش والحكم وغير ذلك من المعاني.

 

العالم علال الفاسي:

كثيرون هم الذين تخرجوا في جامعة القرويين، ولكن الذين كانوا مثل علال قلة قليلة.

 

وكثيرون هم خريجو الجامعات والكليات الشرعية، وأبناء العلماء والمشايخ، ولكن الذين كانوا مثل علال أقل من القليل ذلك أن الرجل حباه الله من المواهب ما بز به الأقران منذ كان تلميذاً على مقاعد الدرس، بزهم بعلمه ومواهبه وأخلاقه وأسلوبه المنطقي الجذاب، وخطابته المؤثرة، فقدموه على أنفسهم، وجعلوه رئيساً وقدوة لهم.

 

وعندما كبر، كبرت معه مواهبه، واتسعت علومه، وامتدت نظراته وطموحاته وتخطيطاته إلى بعيد، فكان العالم والمصلح والمفكر والزعيم السياسي وموقد شعلة النكاح المسلح من أجل الاستقلال وقد تكاملت عدة شخصيات علمية وإصلاحية في شخصه المهيب.

 

نهل وعب من معين أبيه ومن علماء القرويين، ووقف طويلاً أمام سير عظمائنا الأولين والمعاصرين، وأفاد منهم ضروب العزة والكرامة والاستقلالية في الرأي والموقف.

 

اطلع على الدعوة السلفية في المشرق، وأحبها، وأفاد منها في الحرب التي شنتها على الخرافات والبدع وكل ما ليس له صلة بهذا الإسلام الحنيف، ونقل الدعوة السلفية إلى المغرب الذي كان يئن تحت وطأة الخرافات والأساطير والمسائل البدعية.

 

نقل الدعوة السلفية إلى المغرب ولكنه أهمل منها بعض ما رآه غير مهم، وأضاف إليها ما رآه ضرورياً، وبهذا كانت سلفيته سلفية جديدة بعض الشيء، والذي يطالع كتبه يلحظ هذا ويثني عليه.

 

وللأستاذ علال إنتاج غزير، له أكثر من ثلاثين كتاباً في السياسة، والتاريخ، والشريعة، والتربية، وله مئات المقالات نشرها في الصحف المغربية، والمصرية، والسورية، والعراقية، وسواها، ويا ليت بعض الدارسين المجتهدين من طلبة الدراسات العليا، يجمعون ما كتب، ويبوبونه تبويباً علمياً يكون بمثابة أطروحات ورسائل ماجستير ودكتوراه، لأنها كتابات عميقة هادفة جادة، بعيدة الأغوار، تعطي صورة واضحة عن شخصية علال بأبعادها النفسية والفلسفية، يطرح فيها مشروعاً نهضوياً ذا بعد مستقبلي.

 

لقد جمع علال بين الثقافة العربية الإسلامية، وبين ألوان الثقافات الأجنبية، فقد كان نهماً في القراءة في سائر مجالي الحياة الفكرية والثقافية والحضارية.. قرأ لعدد كبير من الأدباء والمفكرين والفلاسفة الغربيين، وقام بعملية فرز ميزت الثمين السمين من الغث والهزيل فمضغ الثمين وهضمه، ونبذ الغث ولفظه، فانضاف ما أخذه من الغرب إلى ما كان اختزنه من العلوم العربية والشرعية، ثم قدمه شهياً لقرائه ومحبيه وعشاق الأصالة والتجديد.

 

ومن كتبه المهمة التي نرشحها للقراءة والدرس:

 (مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها المدخل لدراسة النظرية العامة للفقه الإسلامي دفاع عن الشريعة عقيدة وجهاد الحماية الأسبانية في المغرب من الوجهة التاريخية والقانونية المغرب العربي منذ الحرب العالمية الأولى مهمة علماء الإسلام وتحديات العصر هنا القاهرة م الأحاديث التي أذاعها من إذاعة القاهرة إبان وجوده في مصر بديل البديل تاريخ التشريع الإسلامي نضالية الإمام مالك ومذهبه منهج الاستقلالية دائماً مع الشعب الغرة في أصول الفقه المدخل لعلوم القرآن والتفسير).

 

ومن كتبه أيضاً: (الحركات الاستقلالية في المغرب العربي). وجاء في جزأين كتبه وهو في القاهرة، بطلب من رئيس الدائرة الثقافية في جامعة الدول العربية الدكتور أحمد أمين الذي أراده أن يكتب فصلاً عن حركات التحرر العربي في المغرب، فألف كتاباً كبيراً من جزأين عرف فيه عرب المشرق والمغرب بحركات التحرر في أقطار المغرب العربي: الجزائر، وتونس، والمغرب.. كتب عن كفاحها من أجل الاستقلال ومن أجل الوحدة والنهوض.

 

وكتاب: (النقد الذاتي).. وهذا من أهم كتبه، مع أنه كتبه في وقت مبكر من حياته (صدر عام 1954) أراده برنامجاً للحركة الوطنية، شرح فيه مبادئه وأفكاره وتصوراته، وعالج فيه قضايا فكرية، وثقافية، ودينية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسة ونفسية، وحياتية كثيرة، واستخدم في نقده معايير إسلامية، وظهر فيه عطاؤه الغني المتنوع، وأنه مثقف عميق، ومؤلف غير عادي، وأنه قائد ومنظر عميق الأغوار، سبر الشخصية المغربية بمسبار القيم العربية الإسلامية، لأنها شخصية عربية مسلمة، عرف ما تحتاجه من غذاء روحي وفكري لتنطلق في هذه الحياة فاعله مبدعة، متميزة، تأخذ من تراثها ما يفيدها في حاضرها ومستقبلها، ولا تفضل عما يحيط بها من ألوان الثقافات التي تعينها في مسيرتها، بأخذ المفيد والخير منها ونبذ ما يتعارض مع عقيدتنا وقيمنا ومبادئنا.

 

كاتب للأطفال أيضاً:

لم يغفل الأستاذ العلامة والمجاهد الكبير علال شؤون حبات القلوب أحبائنا الصغار فقد اهتم بهم، بتربيتهم وأدبهم وشعرهمº فنظم لهم من شعره الرقيق، وأخرج لهم ديوان (رياض الأطفال) شعراً سهلاً يستطيعون فهمه وحفظه وإنشاده، وزوده بالرسوم المحببة للأطفال، ثم قدم لهم شعراً قصصياً جميلاً فيه أساطير مغربية وأخرى معربة مما يحبه الصغار ويميلون إليه، وهذا شأن العظماء الذين يرتادون كل روض ليقطفوا من ورده وأزاهيره ما يفيد مجتمعاتهم وناسهم، ويربي صغارهم.

 

الشاعر:

والأستاذ علال الشاعر مجيد، وله ديوان كبير من أربعة أجزاء، وشعره فيه كشعر سائر الشعراء الثائرين أصحاب القضايا الوطنية والتحررية والرسالية، إنه شعر خطابي استطاع به إلهاب العواطف، وإثارة المشاعر نحو القضايا التي تهم الشعب والأمة، شعر ملتزم بالإسلام وقيمه، دعا إلى أن يكون الإسلام محور حياة الأمة، فهو صاحب رسالة في شعره يوظفه لحملها إلى الناس، وكان أداة ماضية في مسيرة الحياة يعبر عن همومه وأشجانه، وعن تطلعاته في مستقبل زاهر لهذه الأمة الماجدة التي نام عن أمجادها كثير من أبنائها الشعراء.

 

لقد حفل شعر علال بقضايا أمته العربية والإسلامية وشعبه المغربي..

 

والشاعر علال ابتاعي الأسلوب، ولكن (كلاسيته) لم تمنعه من ارتياد رياض الشعر الحر، فنظم فيه، ولم يقف منه موقف العداء، مثل كثير من شعراء (الإسلامية) الذين نسوا أن أول من نظم واخترع هذا النمط الجديد من الشعر هو الشاعر العربي الحضر موتي الإسلامي الكبير: علي أحمد باكثير، وليس سواه كما يزعم الزاعمون.

 

في المجامع العلمية:

ولأن علاًلاً بلغت شهرته ما بلغ الإسلام والعربية في المشرق، وطبقت شهرته آفاقه، اختاره المجمع اللغوي في القاهرة عضواً مراسلاً له. وكذلك فعل مجمع اللغة العربية بدمشق (المجمع العلمي العربي بدمشق).

 

في الإعلام:

أدرك الأستاذ علال أهمية الإعلام بأساليبه الحديثة في نقل أفكاره إلى عدد أكبر بكثير مما يستطيعه الكتاب، على أهمية الكتاب، فلم يضيع فرصة أتيحت له إلا اهتبلها وبادر إلى استخدامها فكانت له أحاديثه الإذاعية في إذاعة القاهرة أو الإذاعة المصرية التي شرح فيها قضية بلاده وكل بلاد العروبة والإسلام بلاده، تحدث عن القضية المغربية وعن الاستعمار الغاشم الذي هو من جملة الحملات الصليبية وامتداد لها في العصر الحديث، وعندما كانت تأتيه الفرص في الإذاعات العربية والإسلامية الأخرى يسرع إليها ويفضي إلى مستمعيه بما ينبغي للداعية والسياسي والمجاهد أن يفضوا به إليهم توعية لهم، وشرحاً لقضاياهم وتوجيهاً.

 

كما كتب في الصحافة المصرية وغيرها من الصحف العربية والأجنبية، ولم يكتف بهذا بل عمد إلى تأسيس مجلة باسم (التضامن الإسلامي) شرح فيها فكرة التضامن بين الشعوب المغربية والعربية والإسلامية، والفوائد الجليلة التي تجنيها الشعوب منها، كما أسس جريدة (العلم) لتكون الناطقة الرسمية باسم حزب الاستقلال الذي أسسه ورأسه.

 

علال السياسي والمجاهد:

منذ فتح الطفل علال عينيه على هذه الدنيا، ووعى ما يحيط به، رأى شعبه ينوء بثقل المستعمرين الغزاة الذين جاؤوا ليعتدوا على أرضه وكرامته ودينه، وينهبوا ثرواته.

 

وعندما بلغ مبلغ الفتيان، وصار تلميذا نجيباً، بادر إلى تشكيل جمعية طلابية معادية للوجود الاستعماري على أرضه، وانتخبه الطلاب رئيساً لها، لما أوتي من صفات تؤهله للقيادة فكان يقود المظاهرات ويشارك في المؤتمرات التي تندد بالاستعمار، وكان أبوه يحرضه ويشجعه على النضال، ويرى فيه من الذكاء والصلابة ما يجعله زعيماً مجاهداً في قابل الأيام.

 

ثم شكل كتلة العمل الوطني، وانتخب رئيساً لها، وعندما قرر الاستعمار إلغاءها سارع إلى تشكيل الحزب الوطني برئاسته أيضاً، وعقد مؤتمرات شعبية، خاطب فيها الجماهير الغفيرة، وشرح لها أهداف كتلة العمل الوطني، وأهداف الحزب الوطني ولخصها بوجوب انسحاب الاستعمار الفرنسي من دياره، وبالاستقلال التام.

 

ومن أجل هذا الهدف النبيل، بادر إلى تشكيل جيش التحرير وهو في القاهرة، وزوده بالرأي وبالمال والسلاح.

 

وكان يجاهد الفرنسيين من أجل حماية الشخصية الإسلامية من الكهنوتية والإلحاد والعهر والفجور والدعارة والخمور، كان يقول للناس: فرنسا لا تريد لنا تقدماً إلا بالتفرنس والبعد عن العروبة والإسلام، وعن كل ما يمت إليهما بصلة من القيم والفضائل، وإلا بنشر اللغتين: الفرنسية والبربرية بدلاً عن اللغة العربية، وإحلالهما ومحلها.

 

لقد كان علال عدواً لدوداً للاستعمار بشتى أشكاله وألوانه، وخصماً عنيداً للمتعاونين معه والمهادنين له، وكان المستعمرون يعرفون هذا منه، ويقفون في وجهه بقوة، ولكنه ما كان يبالي بما يصيبه من أذى في سبيل تحقيق الهدف الرئيس له، ألا وهو الاستقلال من كل أشكال الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري.

 

الاعتقال والمنفى:

من أجل ذلك، تعرض علال للاعتقال مراراً، وكان في كل مرة يخرج من معتقله أشد إيماناً بقضيته، واستمساكاً بها، ورفضاً لأي تفاوض مع المستعمر إلا بعد الجلاء والاستقلال.

 

في عام 1930 اعتقلته السلطات الاستعمارية، على إثر المظاهرات التي قاد بعضها، وشارك في بعضها الآخر، ضد مشروع (الظهير البربري)، وضربوه وعذبوه، ثم نفوه إلى بلدة (تازة) وعندما أفرجوا عنه، عاد إلى مدينه (فاس) عام 1931 وحاول العودة إلى التدريس، فمنعته السلطات الاستعمارية، فصار يدرس الناس في بيته، ويتابع دراسته في القرويين.

 

وفي عام 1937 أعادوا اعتقاله، ونفوه إلى الغابون في إفريقيا الاستوائية، وبعد أربع سنوات (1941) نقوله إلى الكونغو خمس سنين أخرى، فكان مجموع سني نفيه تسمع سنوات أمضاها مقطوعاً عن العالم الخارجي، فلا صحف ولا زيارات، ولا لقاء بأحد سوى سجانيه الفرنسيين القساة العتاة الذين كانوا يمارسون ألواناً من التمييز العنصري، كما رأى الظلم الذي يوقعه الفرنسيون بالأفارقة السود.

 

وأفاد السجين المنفي علال من عزلته هذه، وانطلق يفكر في الأساليب التي يجب أن ينتهجها من أجل تحرير وطنه وشعبه من ربقة الاستعمار، وكان يهتبل فرصة وجود بعض الضباط السجانين والزائرين، ليشرح لهم قضية شعبه، ويحاورهم في ضرورة استقلاله بكل جرأة وصراحة ووضوح، فيلقى الصد والتعنيف حيناً، والاحترام والقبول حيناً آخر، وكان بعض أولئك الضباط والمحاورين ينقلون إلى رؤسائهم آراء علال، وكان بعضهم يتعاطف معه.

 

قال له المسيو لوارنسييه يوماً: (إن وزارتي الخارجية الإنكليزية والأمريكية طلبتا من الجنرال ديجول إطلاق سراحك رسمياً، وأن تدخل مع جيوش الحلفاء، مع قبول شرطك في إعلان الاستقلال ولكن الجنرال ديغول غضوب مثلكم، فقد كان يريد وضع حل للقضية المغربية بالاتفاق معكم، ولكن طلب الإنكليز والأميركان إطلاق سراحكم، وإعلان استقلال المغرب، أحدث في نفسه تخوفات، وبعث فيه روح الرجل الذي لا يحب أن يعمل تحت الضغط).

 

وهكذا كان علال ملء السمع والبصر والعقل والقلب، يحاربه أعداؤه والمستعمرون، ويضيقون بأفكاره الوطنية والعربية والإسلامية، فيعتقلونه وينفونه، ويعذبونه، ولكنهم يحترمونه، ويعرفون أنه الناطق الرسمي باسم الشعب المغربي، والممثل الشخصي له، وكلمته هي الكلمة الفصل، وحزبه هو الحزب الذي يجب أن يتفاوضوا معه، فمسيرة الرجل المجاهد علال، وشخصيته الفذة، ومواقفه الصريحة الجريئة التي كلفته الكثير من الأذى، وأقنعتهم أن علالاً هو الرجل الجدير بالتفاوض والاحترام، لأنه ما كان يعمل لمجد شخصي، أو مصلحة ذاتية أو قبلية أو حزبية، وإنما كانت كل تلك التكاليف ثمناً لمبدأ آمن به وناضل من أجله، هو إنجاز الاستقلال لأرضه وشعبه.

 

أسفاره:

كان علال كثير الأسفار، وسيع الاتصالات والعلاقات بالحركات التحررية والاستقلالية والعربية والإسلامية، وكانت صلاته بالمشرق العربي وثيقة عميقة، وكنا، ونحن صغار، لا نكاد نعرف من المغرب العربي، سوى علال الفاسي، يقيم في القاهرة، ويزور دمشق وبغداد، ويكتب في صحفها، ويحاضر في منتدياتها، ويتحدث في إذاعاتها، ويحاور قادتها، ويعقد الصداقات والمودات مع رجالاتها، فعرفناه معرفة جيدة وعن كثب، وأحببنا منطقه ولهجته المغربية، وحاولنا تقليده فيها، كما كنا نعرف ونقلد ونحب مشايخنا: البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني من الجزائر، ومحيي الدين القليبي من تونس، وسعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين، وعبد العزيز علي، وعز الدين إبراهيم، وسعد الدين الوليلي من مصر.

 

زار العواصم العربية والأوروبية وأمريكا من أجل تحرير بلاده واستقلالها، ومن أجل تحرير سائر بلدان المسلمين، وخاصة فلسطين.

 

وفاته:

لقد بذل علال كثيراً من أجل فلسطين والقدس، حتى آخر نفس من أنفاسه الطاهرة، فقد كان في بوخارست عاصمة بلغاريا ينافح عن فلسطين والقدس، عندما أصابته نوبة قلبية توفي على إثرها وهو يهتف بالعالم، فلسطين عربية مسلمة، وعاصمتها القدس الشريف، كان ذلك يوم الاثنين والعشرين من شهر ربيع الثاني عام 1394هـ الثالث عشر من أيار 1974، ونقل جثمانه الطاهر إلى المغرب، ووري في مثواه في هذه الدنيا في مقبرة الشهداء في مدينة الرباط.

 

مع الجماهير:

كان علال زعيماً حقيقياً نال الزعامة عن جدارة، فقد تجمعت لديه كل مقومات الزعامة والقيادة وجعلته يمتلك ناصية الشارع السياسي في بلاده، فكان الأبرز بين سائر الزعماء الوطنيين، وكان الأقرب إلى قلوب الناس، فأقبلوا عليه يستمعون له، ويتحاورن معه، ويخرجون من عنده وقد ازدادوا به ثقة، وله سمعاً وطاعة، فقد قرؤوا في عينيه وفي قسمات وجهه كل الصدق والإخلاص، ووجدوا عنده الدفء الذي طالما افتقدوه لدى الوجهاء والعلماء، كانوا يسمعون كلماته العذبة التي تحمل لهم جوانب من عقله الكبير، فتنفذ إلى عقولهم، وتلتقي قلوبهم قلبه الكبير العامر بالحنان والحب، فيرونه واحداً منهم، لكنه يكبرهم فيحنو عليهم حنو الكبير على الصغير.

 

المنظم والمنظر:

كان علال منظراً ومنظماً.. ظهرت هاتان فيه منذ صغره عندما أسس جمعية طلابية ضد الاستعمار الفرنسي وتسلم رئاستها، ثم في كتلة العمل الوطني، ثم في الحزب الوطني، ثم في حزب الاستقلال، ثم في جيش التحرير، ثم في تأسيس نقابة للعمال، وعندما كان مدرساً في المدرسة الناصرية التي أسهم في تأسيسها، والتخطيط لمناهجها وبرامجها.

 

ثم وهو زير للشؤون الإسلامية، ثم وهو وزير العدل، ثم وهو رئيس للمجلس التأسيسي الذي وضع دستور المغرب عام 1960، وترك علال بصماته بوضوح عليه، ثم في مجلس النواب الذي اختير عضواً فيه عام 1963 وكانت بصماته ظاهرة في قراراته، ثم وهو رئيس منتخب لهيئة دائرة معارف المغرب، ثم وهو عضو في رابطة العالم الإسلامي.

 

حزب الاستقلال:

شكل علال حزب الاستقلال بعد عودته من منفاه عام 1946 ودعا في دستوره إلى انضمام بلاده إلى الجامعة العربية الوليدة، بدلاً من (الاتحاد الفرنسي) الاستعماري.

 

وقد وضع لهذه الحزب نظامه الخاص، ووضح رؤاه للحاضر والمستقبل ولعل أهم ما نادى به:

 

-  الاستقلال فهو الشرط الأساسي لإقلاع المغرب، والنهوض به.

 

-  الحرية بسائر أشكالها الفردية والجماعية.

 

-  ولهذا طالب بدستور ديموقراطي شوروي يعترف بحقوق الإنسان.

 

-  ورأى أن ينص في الدستور على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وعلى أن الإسلام هو دين الدولة.

 

-  وأن ينص على أن المغاربة متساوون أمام القانون، ولا امتياز لأحد من أحد.

 

-  وأن يكون القضاء عادلاً مستمداً من الشريعة الإسلامية، ومن مبادئه رفع المستوى الأخلاقي للشعب.

 

-  وأن يكون التعليم مجانياً وإجبارياً.

 

-  وأن تكون الرعاية الصحية للجميع، وفي تحسن مطرد.

 

-  وأن ينص على تحسين أحوال العمال والفلاحين وسائر الفقراء.

 

-  وأن تكون السياسة الخارجية منسجمة مع المصالح العربية التي تربطنا بها روابط دينية وتاريخية وثقافية.

 

الوحدوي:

كما علال داعية التحرير والاستقلال، هو داعية الوحدة التوحيد، والوحدة عنده محصورة في أربع دوائر:

 

الأولى: وحدة التراب المغربي

 

الثانية: الوحدة المغاربية التي تجمع وتوحد الأقطار الثلاثة: المغرب، والجزائر، وتونس، بل إنه يجعل القطر المصري مشمولاً بهذه الوحدة، لأنه امتداد طبيعي وتاريخي لأقطار المغرب العربي.

 

الثالثة: الوحدة العربية الشاملة لسائر أقطار العروبة، ويعدها مقدمة للوحدة الإسلامية.

 

الرابعة: الوحدة الإسلامية.

 

غيض من فيض:

هذا غيض من فيوضات هذا القلم العالم العامل المجاهد الذي افتدى دينه وشعبه وأمته بكل ما يملك من مال، ووقت، وراحة، وحرية، وكان من العلماء المجددين، تجاوزت سمعته الطيبة حدود المغرب، إلى الشرق، وإلى سائر بلاد المسلمين، فكان قطباً من أقطابهم في عصره، وما زال تأثيره في الأجيال التي تلته.

 

لقد كان الإسلام هو الحادي لمسيرته منذ نعومة أظفاره، إلى التحاقه برحمة الله - تعالى -، لم يحد عنه، ووقف شامخاً في وجه الأعاصير التي أرادات أن تعصف به، كفعل سائر المجاهدين الغيورين الشامخين بهذا الدين العظيم، لا يطأطئون لعاصفة هوجاء، ولا يرزحون لنير ظالم مستبد، جذوره ضاربة في أعماق أرضه، وهامته تناطح السحاب.

 

_________________

المصادر والمراجع:

-  كتب الأستاذ علال الفاسي.

-  جريدة (العلم) المغربية عدد 27/1/1420هـ.

-  النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، للدكتور محمد رجب البيومي، المجلد الثالث.

-  ملامح من شخصية علال الفاسي، للأستاذ عبدالكريم غلاب.

-  رجال عرفتهم، للأستاذ أبي بكر القادري.

-  مثقف الحرية والإصلاح، للأستاذ محمد شكري سلام.

-  الأعلام، لخير الدين الزركلي.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply