سوق عكاظ .. لمحة تاريخية


  

بسم الله الرحمن الرحيم

في سهل منبسط بين مكة والطائف حظي بوفرة المياه والنخيل يقع سوق عكاظ، والذي كان يُقام ما بين هلال ذي القعدة ومنتصف الشهر، وقد يمتد حتى الثاني من ذي الحجة موعد القيام بشعائر الحج.

كانت عكاظ معرضاً تجارياً ومنتدًى اجتماعياً حافلاً بكل أنواع النشاط، وكانت منبراً يبلغ الحاضرُ الغائب بما أُعلن فيها، وما عُقد من معاهدات بين القبائل، وتُذاع أسماء من يُخلعون من قبائلهم فتسقط بذلك حقوق الواحد منهم على قبيلته فلا تحمل له جريرة.وكان بعض الأشراف يتقنعون في السوق كي لا يُعرفوا، فلا ينال منهم عدو لهم، أو يأسرهم طامع، ثم يغالي بطلب فديتهم. وكانت سوق عكاظ مجالاً لإطلاق الألقاب والأوصاف على الأفراد والقبائل، كما كانت الأحداث التي تجري فيها مصدراً للأمثال. وكانت تُرفع في السوق رايات الحزن إذا نُكبت قبيلة، كما فعلت قريش بعد موقعة بدر. وتُقام فيها مباريات الفروسية والسباق وغيرها.

 

ما قيل في تسميته

جاء في سبب تسميته وأصل كلمة (عكاظ) بأنه سُمّي بهذا الاسمº لأن العرب كانت تجتمع فيه فيعكظ بعضهم بعضاً في المفاخرة أي يقهره ويغلبه، ويُقال: فلان يعكظ خصمه بالخصومة: يمعكه.

إن بين تسميتها وبين ما يدور فيها من نشاطات صلة قوية، فقد اشتق اسمها من المعاكظة وهي المحاجة في المفاخرة التي كانت إحدى نشاطات ذلك السوق، ولقد تحدث عن ذلك اللغويون فالخليل بن أحمد مثلاً يقول: (وسُمّي به لأن العرب كانت تجتمع فيه كل سنة فيعكظ بعضهم بعضًا بالمفاخرة والتناشد: أي يُدعك ويُعرك، وفلان يعكظ خصمه بالخصومة: يمعكه). ويقول ابن دريد: (عكظت الرجل أعكظه عكظًا إذا رددت عليه وقهرته بحجتك، وعكاظ بهذا سُمّي، وهو مواضع لمواسم العرب كانوا يتعاكظون فيه بالفخر). ويقول ابن سيدة: (عكظ دابته يعكظها: حبسها، وعكظ الشيء يعكظه: عركه، وعكظ خصمه يعكظه عكظًا: عركه وقهره، وتعاكظ القوم: تعاركوا وتفاخروا). ويقول الليث: (سُمّيت عكاظ لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضًا بالمفاخرة أي يدعك، وعكظ فلان خصمه باللدد والحجج عكظًا). وينقل ياقوت عن السهيلي قوله: (كانوا يتفاخرون في سوق عكاظ إذا اجتمعوا، ويُقال: عكظ الرجل صاحبه إذا فاخره وغلبه بالمفاخرة، فسُمّيت عكاظ بذلك) ثم يضيف: وقال غيره: (عكظ الرجل دابته يعكظها إذا حبسها، وتعكظ القوم عكظًا إذا تحبسوا ينظرون في أمورهم، قال وبه سُمّيت عكاظ). ويقول الزمخشري (وعكاظ متسوق للعرب كانوا يجتمعون فيه فيتناشدون ويتفاخرون... ومنه قالوا تعكظوا في مكان كذا إذا اجتمعوا وازدحموا، قال عمرو بن معد يكرب:

ولكن قومي أطاعوا الغوا * * * ةَ حتى تعكظ أهلُ الدمِ

وكما شغلت لفظة (عكاظ) اللغويين فقد شغلت النحويين فنظروا إليها وهم مختلفون من ناحية صرفها وعدمه، وأدلى كل فريق بعلته مستندًا على ما قيل فيها من شعر وخلاصة القول ما قاله اللحياني: أهل الحجاز يجرّونها، وتميم لا تجرّها، قال أبو ذؤيب:

إذا بُني القبابُ على عكاظ  * * * وقام البيعُ واجتمع الألوف

 

شعراء عكاظ وأعلامه

تلتقي القبائل والعشائر في سوق عكاظ، فيدير شؤون كل قبيلة شيوخُها ورؤساؤها. ويقضي بين الناس إذا تنازعوا قضاة معترف بهم، من أشهرهم أكثم بن صيفي حكيم العرب من تميم، وكان يُضرب فيه المثل في النزاهة وحب الخير والحكمة، وعامر بين الظَّرِب من بني عَدوان من قيس عيلان، وحاجب بن زرارة، وعبد المطلب، وأبو طالب، والعاص بن وائل، والعلاء بن حارثة من بني قريش، وربيعة حُذار من بني أسد.

وقد ساهم سوق عكاظ كونه ملتقى للشعراء وحاضناً لهم ومنبعاً لقرائحهم- ساهم في إخراج عدد من الأسماء والقصائد الشعرية الكبيرة في تاريخ الأدب العربي، وهناك كانوا يتبايعون ويتعاكظون، ويتفاخرون، ويتحاججون، وتنشد الشعراء ما تجدد لهم، وقد كثر ذلك في أشعارهم، كقول حسان:

سأنشرُ إن حييتُ لهم كلاماً  * * * يُنشرُ في المجامع من عكاظ

وممن برز فيه وعلا فيه شأنه النابغة الذبياني، الذي ترأس سوق عكاظ، وفي ذلك يقول الأصمعي: كان النابغة يُضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها.

وفيها كان يخطب كل خطيب مصقع، ومنهم قس بن ساعدة الأياديº إذ خطب خطبته الشهيرة هناك، وهو على جمله الأورقº والتي جاء فيها: \"أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليلٌ داجٍ,، ونهار ساجٍ,، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء لخبراً، وإن في الأرض لعبراً، ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا أم تُركوا فناموا، يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه، إن لله ديناً هو أرضى له، وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكراً\".

وفيه عُلّقت القصائد السبع الشهيرة افتخاراً بفصاحتها على من يحضر الموسم من شعراء القبائل إلى غير ذلك، وكان كل شريف إنما يحضر سوق بلده إلاّ سوق عكاظ، فإنهم كانوا يتوافدون إليها من كل جهة، فكان يأتيها قريش، وهوازن، وسليم، والأحاشيش، وعقيل، والمصطلق، وطوائف من العرب.

ومن كان له أسير سعى في فدائه، ومن كانت له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة، وكان الذي يقوم بأمر الحكومة في هذه السوق أناس من بني تميم، وكان أحدهم الأقرع بن حابس، ولما كانت هذه السوق مجمع القبائل، قال طريف بن تميم العنبري:

أوَ كلما وردت عكاظَ قبيلةٌ * * * بعثوا إليّ عريفَهم يتوسمُ

وكانت بعكاظ وقائع مرة بعد مرة، ولذلك يقول دريد بن الصمة:

تغيّبتُ عن يومي عكاظ  * * * كليهما وإن يكُ يـومٌ ثالثٌ أتغيبُ

وإن يكُ يـومٌ رابعٌ لا أكن به * * * وإن يكُ يومٌ خامسٌ أتجنبُ

استمرت سوق عكاظ أكثر من قرنين، والمرجح أنها بدأت قبل الهجرة بسبعين سنة، واستمرت في الإسلام حتى سنة 149هـ حين نهبها الخوارج.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply