معركة دمياط


 

بسم الله الرحمن الرحيم

19 رجب 618هـ:

أو ما يعرف تاريخياً بالحملة الصليبية الخامسة على بلاد الإسلام، وهذه المعركة هي أشبه ما يكون بالملاحم الأسطورية التي تروى كضرب من الخيال والإمتاع، ذلك لأنها استمرت أكثر من ثلاث سنوات، وكان بابا روما «أنوسنت الثالث» يخطط ويدبر لحملة صليبية جديدة على بلاد الإسلام بعد وفاة الناصر صلاح الدين, وبالفعل انطلقت الحملة الصليبية الرابعة سنة 600هـ، ولكنها غيرت مسارها واتجهت إلى القسطنطينية لإخضاع الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية لسلطان الكنيسة الغربية الكاثوليكية، وبالجملة فشلت هذه الحملة فشلاً ذريعاً, لذلك نجد معظم المؤرخين الأوروبيين يعرض عن ذكر هذه الحملة، ولا يضعها أصلاً في عداد الحملات الصليبية.

ولم يفت الفشل الذريع لهذه الحملة في عضد البابا «أنوسنت الثالث» الذي أخذ في التحضير لحملة جديدة على بلاد الإسلام يشترك فيها من لم تتلطخ يداه في الحملة السابقة، فلبى النداء كل من «ليوبولد» ملك النمسا، و«أندريه الثاني» ملك المجر، و«بهمايو» ملك قبرص وغيرهم، وقد تقرر تغيير خط سير الحملات المعتادة, حيث كانت مصر هي الهدف هذه المرة وليست الشام وذلك لأسباب عديدة منها ضرب مركز الثقل في العالم الإسلامي وهي مصر, ومنها رغبة المدن التجارية الإيطالية في السيطرة على تجارة البحر المتوسط, وضرب التجارة المصرية في عقر دارها بالاستيلاء على ميناء دمياط الذي كان أهم موانئ الشرق، وأهمها بالتأكيد استعادة بيت المقدس.

وقبل أن تنطلق الحملة الصليبية الخامسة هلك البابا «أنوسنت الثالث»، وخلفه البابا «هونوريوس الثالث» الذي أراد أن يؤكد على نفوذ وسيادة الكنيسة الكاثوليكية على الحملة، فأرسل الكاردنيال البرتغالي «بلاجيوس» ليكون القائد العام للحملة على الرغم من انعدام الخبرة والكفاءة الحربية لهذا الرجل، وهذا ما سيدفع الصليبيون ثمنه غالياً بعد ذلك.

كانت بلاد الشام ومصر في هذه الفترة تحت حكم الأسرة الأيوبية وكبيرها الملك العادل أبي بكر الأيوبي وهو أخو الناصر صلاح الدين، ورفيق كفاحه، وشريك جهاده ضد الصليبيين، فلما وصلت أخبار الحملة الصليبية الخامسة للملك العادل وكان بالشام وقتها أسرع وعسكر بجنوده عند مدينة «بيسان» بالأردنº ذلك لأن الحملة الصليبية قد نزلت بميناء «عكا» وكان ما يزال وقتها تحت السيطرة الصليبية, ولم تكن الحملة وقتها تنوي التوغل في بلاد الشام، بل كانت تنوي الانتقال من «عكا» إلى «دمياط», ولكن حدث أن انفصل ملك المجر «أندريه الثاني» ومعه عدد كبير من الصليبيين عن الحملة، وعاد إلى بلاده, فضعفت الحملة، وانتظرت قليلاً حتى يأتيها الإمدادات من غرب أوروبا.

خلال هذه الفترة أخذ الصليبيون في الإغارة على قرى ومدن الشام لجمع المؤن والأموال, والملك العادل الأيوبي لا يقوى على ردهم لضخامة جيوشهم، وعاثوا في الشام فساداً، في حين اجتهد العادل الأيوبي وبنوه الأمراء الثلاثة [محمد - موسى - عيسى] في حفظ أهم مدن الشام من عدوان الصليبيين, وفي أول سنة 615هـ ـ 1218م اتجهت الحملة الصليبية بكامل قوتها إلى ميناء دمياط، ونزلوا على الميناء في موقع اسمه «جيزة دمياط»، وهي مثالية من وجهة النظر الدفاعية وليس الهجومية، وكان هذا التحول القتالي مفاجأة مذهلة للسلطان العادل وابنه الأمير محمد الملقب بالكامل والذي كان والياً على مصر، فخرج الأمير محمد بالجيش المصري للدفاع عن دمياط، وكان مفتاح دمياط برجاً منيعاً في غاية القوة والصلابة فيه سلاسل من حديد ضخمة تمتد بطول النيل لتمنع أي مراكب تريد الإغارة على البلاد من هذا الطريق.

ظل الوضع متجمداً طيلة أربعة أشهر, الصليبيون يحاولون اقتحام برج السلسلة، والجيش المصري يدافع عن دمياط بكل قوة حتى استطاع الصليبيون الاستيلاء على البرج بعد معركة طاحنة مع المدافعين عنه, ولما وصلت أنباء سقوط البرج للسلطان العادل الأيوبي تأوه لذلك بشدة، وأصابه الحزن، وقتله الهم في 7 جمادى الآخرة سنة 615هـ.

بعد سقوط برج السلسلة حاول الأمير الكامل حاكم مصر إعاقة تقدم الصليبيين فصنع جسراً عظيماً أنفق عليه سبعين ألف دينار, فقاتل الصليبيون عليه قتالاً عنيفاً حتى قطعوه، فأمر الكامل بتفريق عدد من المراكب في النيل ليسد مجرى السفن, فعدل الصليبيون إلى خليج هناك يعرف بالأزرق، وكان النيل يجري فيه قديماً، فحفروه حفراً عميقاً، وأجروا فيه المياه إلى البحر المتوسط، مما يوضح مدى إصرار الصليبيين على القتال، وصبرهم على ذلك، ولكن الوضع ظل متجمداً بين الصليبيين والجيوش المصرية.

ظلت المقاومة الإسلامية للصليبيين على أشدها باسلة رائعة، ولكن وقعت حادثة غيرت مسار القتال عندما تآمر أحد الأمراء المماليك واسمه «عماد الدين ابن المشطوب» على السلطان الكامل حاكم مصر، ووارث مكان أبيه السلطان العادل، وذلك من أجل عزله، وتولية أخيه الأمير «الفائز» مكانه, فترك السلطان الكامل معسكر الجيش في دمياط، وعاد إلى القاهرة لتدارك الفتنة، وعندما علم الجنود قرار قائدهم تركوا جميعاً المعسكر، وأصبحت المدينة مفتوحة أمام الصليبيين.

لم يكن السلطان الكامل مثل أعمامه الأبطال صلاح الدين وغيره, فلقد كان يميل للمهادنة والدعة والمسالمة, يكره القتال، شديد الذعر في ميادين القتال، بالجملة لم يكن رجل الساعة أو فارس المناسبة، فلما رأى اقتراب الصليبيين من احتلال دمياط عرض عليهم عرضاً لا يصدقه عقل حتى يرجعوا عن دمياطº حيث عرض عليهم تسليم بيت المقدس وعسقلان، وطبرية وصيدا، وجبلة واللاذقية، وجميع ما فتحه صلاح الدين، وهكذا قرر الكامل أن يشتري السلام بالتنازل عن كل ما فتحه صلاح الدين بدماء الشهداء، وجهاد السنين، ولكن..

واصل الصليبيون قتالهم حتى اقتحموا المدينة في 25 شعبان 616هـ، وارتكبوا واحدة من مذابحهم المروعة الشهيرة, قتلوا خلالها جميع أهل دمياط، وطمسوا معالم الإسلام فيها, وحولوها إلى مدينة صليبية خالصة، ولكن نشب الخلاف بينهم بحيث مضى عام ونصف وهم غير قادرين على القيام بأية عمليات عسكرية حاسمة, وانتهى الخلاف إلى أن خرج القائد العسكري «حنا برين» من دمياط عائداً إلى بلاده مغاضباً, وأصبح الأحمق «بلاجيوس» القائد الوحيد للحملة.

خلال هذه الفترة استقرت الأمور في البيت الأيوبي، واصطلح الإخوة الثلاثة [محمد الكامل - عيسى المعظم - موسى الأشرف]، وانتهت المشاحنات بينهم، واتفقوا على مواجهة الصليبيين، وقد عسكر السلطان الكامل عند مدينة المنصورة في مكان حصين شيده الكامل في فترة الهدوء الصليبي، ودعا الناس إلى التطوع لصد الصليبيين عن مصر، وشن المسلمون هجمات متتالية على المعسكر الصليبي، وأسروا سبع سفن صليبية كبيرة، والكثير من الجنود، وتضعضع موقف الصليبيين، ولكن وصول قوات صليبية جديدة من ألمانيا شجع الكاردنيال الأحمق «بلاجيوس» على تنفيذ خطته للزحف نحو القاهرة بعد أن تأخرت كثيراً, ولكنه اختار الوقت غير المناسب حيث فيضان نهر النيل، فوجد الصليبيون أنفسهم والماء قد أغرق أكثر الأرض التي هم عليها, ووجدوا أنفسهم محاصرين بالجيش المصري جنوباً، والجيش الشامي من ناحية الشمال, وهم قد تركوا معسكرهم الحصين بدمياط عندما خرجوا للقاهرة بأمر الأحمق «بلاجيوس»، وأصبح وضع الصليبيين شديد التأزم, وألقي الرعب في قلوبهم، وركبتهم الذلة والصغار, واضطر المغرور «بلاجيوس» إلى طلب الصلح والهدنة على أن يخرجوا من دمياط بغير عوض.

اختلف قادة معسكر المسلمين حول طلب الهدنة ففي حين وافق عليها الكامل، رأى إخوته وآخرون انتهاز الفرصة والقضاء على الصليبيين، ولكن السلطان الكامل المذعور بطبعه من أي قتال وافق على العرض، وفي يوم الأربعاء 19 رجب سنة 618هـ - سبتمبر 1221م دخل المسلمون المدينة, وهكذا انتهت الحملة الصليبية الخامسة بفشل ذريع، وخسارة ضخمة على الرغم من غياب القيادة الإسلامية الصالحة لهذا الظرف الخطير.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply