من أدب الرحلات رحلات ابن بطوطة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

لا يُذكر اسم أدب الرحلات إلا ويرد بالبال أول ما يرد اسم ابن بطوطة، ولد أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إبراهيم الطنجي في مدينة طنجة في يوم الاثنين السابع عشر من شهر رجب سنة 703 هجرية الرابع والعشرين من فبراير سنة 1304 ميلادية لأب من أوساط الناس، أما ابن بطوطة فهو الاسم الذي اشتهر به، كان ابن بطوطة مفطورًا على حب الرحلة والسفر والتجوال، بدأ رحلته سنة 725 هجرية قاصدًا الحج وكان في الثانية والعشرين من عمره، يقول د. حسين مؤنس: إن ابن بطوطة كان مُهَيئًا نفسيًّا وجسديًّا للمطلب العسير الذي أراده وأعانه الله عليه فاستمتع بما أراد وأمتعنا معه، ومن لطائف حديثه في رحلته أنه كان يذكر كل شيء حتى الصادع الذي يلم به أو المغص الذي يصيبه أو الرمد الذي يشكوه، فيزيدنا استمتاعًا بقراءته، فنحن مع مُحَدِّث بارع وحديثه كله مفيد، حتى حديثه عن أمراضه وأوجاعه عظيم الفائدة فهو يعطينا فكرة عن الأدوية وأساليب التداوي في أيامه، ويكشف لنا عن حقيقة أكبر وهي أن مستوى العلاج لم يكن منخفضًا كما نظنº فقد كان للناس معارف طبية كثيرة جدًّا، وكانت أدويتهم على بساطتها نافعة ناجعة، وهذا جانب من جوانب الحضارة الإسلامية عظيم، وإليك نماذج من رحلات ابن بطوطة.

 

الخروج من طنجة:

قال الشيخ أبو عبد الله: كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب الفرد عام خمسة وعشرين وسبعمائة معتمدًا حج بيت الله الحرام وزيارة قبر الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام -، منفردًا عن رفيق أنس بصحبته، وركب أكون في جملتهº لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم، فجزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصبًا، ولقيت كما لقيا من الفراق نصبًا، وسني يومئذ ثنتان وعشرون سنة.

قال ابن جزي، أخبرني أبو عبد الله بمدينة غرناطة أن مولده بطنجة في يوم الاثنين السابع عشر من رجب الفرد سنة ثلاث وسبعمائة.

وصلنا مدينة الجزائر، وأقمنا بخارجها أيامًا إلى أن قدم الشيخ أبو عبد الله وابن القاضي فتوجهنا جميعًا على منبجة إلى جبل الزان، ثم وصلنا إلى مدينة بجاية.

وكان أمير بجاية إذ ذاك أبا عبد الله محمد بن سيد الناس الحاجب، وكان قد توفي من تجار تونس الذين صحبتهم من مليانة محمد بن الحجر الذي تقدم ذكره، وترك ثلاثة آلاف دينار من الذهب، وأوصى بها لرجل من أهل الجزائر يعرف بابن حديدة ليوصلها إلى ورثته، فانتهى خبره لابن يد الناس المذكور، فانتزعها من يده، وهذا أول ما شاهدته من ظلم عمال الموحدين وولاتهم.

ولما وصلنا إلى بجاية كما ذكرته أصابتني الحمى فأشار عليّ أبو عبد الله الزبيدي بالإقامة فيها حتى يتمكن البرء مني، فأبيت وقلت: إن قضى الله - عز وجل - بالموت فتكون وفاتي بالطريق، وأنا قاصد أرض الحجاز، فقال لي: إما أن عزمت فبع دابتك وثقل المتاع وأنا أعيرك دابة وخباء، وتصحبنا خفيفًا، فإننا نجد السير خوف غارة العرب في الطريق، ففعلت هذا وأعارني ما وعد به جزاه الله خيرًا، وكان ذلك أول ما ظهر لي من الألطاف الإلهية في تلك الوجهة الحجازية.

وسرنا إلى أن وصلنا مدينة قسنطينة فنزلنا خارجها، وأصابنا مطر جود، فاضطررنا إلى الخروج عن الأخبية ليلاً إلى دور هنالك، فلما كان من الغد تلقانا حاكم المدينة، وهو من الشرفاء الفضلاء، يُسمى بأبي الحسن، فنظر إلى ثيابي وقد لوثها المطر فأمر بغسلها في داره، وكان الإحرام منها خَلِقًا فعبث مكانه إحرامًا بعلبكيًّا، وصرَّ في أحد طرفيه دينارين من الذهب، فكان ذلك أول ما يفتح به عليَّ في وجهتي.

ورحلنا إلى أن وصلنا مدينة بونة، ونزلنا بداخلها، وأقمنا بها أيامًا ثم تركنا بها من كان في صحبتنا من التجار لأجل الخسوف في الطريق، وتجردنا للسير، وواصلنا الجد، وأصابتني الحمى، فكنت أشد نفسي بعمامة فوق السرج خوف السقوط بسبب الضعف، ولا يمكنني النزول من الخوف، إلى أن وصلنا مدينة تونس، فبرز أهلها للقاء الشيخ أبي عبد الله الزبيدي، ولقاء أبي عبد الله النفزاوي، فأقبل بعضهم على بعض بالسلام والسؤال، ولم يسلم عليّ أحد لعدم معرفتي بهم، فوجدت من ذلك في النفس ما لم أملك معه سوابق العبرة، واشتد بكائي فشعر بحالي بعض الحجاج، فأقبل عليَّ بالسلام والإيناس، وما زال يؤنسني بحديثه حتى دخلت المدينة ونزلت منها بمدرسة الكتبيين.

قال ابن جزي: أخبرني شيخي قاضي الجماعة أخطب الخطباء أبو البركات محمد بن إبراهيم السلمي، هو ابن الحاج البلفيقي: أنه جرى له مثل هذه الحكاية قال: قصدت مدينة بلش من بلاد الأندلس في ليلة عيد برسم رواية الحديثة المسلسل البعيد عن أبي عبد الله بن الكماد، وحضرت المصلى مع الناس، فلما فرغت الصلاة والخطبة أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام، وأنا في ناحية لا يسلم عليّ أحد فقصد إليَّ شيخ من أهل المدينة المذكورة وأقبل عليَّ بالسلام والإيناس وقال: نظرت إليك رأيتك منتبذًا عن الناس، ولا يسلم عليك أحد، فعرفت أنك غريب، فأحببت إيناسك، جزاه الله خيرًا. ثم وصلنا إلى مدينة قابس، ونزلنا بداخلها وأقمنا بها عشرًا لتوالي نزول الأمطار.

ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس، وصَحَبَنا في بعض المراحل إليها نحو مائة فارس، أو يزيدون، وكان بالركب قوم رماة فهابتهم العرب وتحامت مكانهم، وعصمنا الله منهم، وأظلنا عيد الأضحى في بعض تلك المراحل، وفي الرابع بعده وصلنا إلى مدينة طرابلس، فأمنا بها مدة، وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس، فبنيت عليها بطرابلس ثم خرجت من طرابلس أواخر شهر المحرم، من عام تسعة وعشرين وسبعمائة ومعي أهلي وفي صحبتي جماعة من المصامدة، وقد رفعت العلم، وتقدمت عليهم، وأقام الركب في طرابلس خوفًا من البرد والمطر وتجاوزنا مسلاته ومسراته وقصور سرت، وهنالك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا ثم صرفتهم القدرة، وحالت دون ما راموه من أذيتنا.

ثم توسطنا الغابة، وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابد، إلى قبلة سلام وأدركنا هنالك الركب الذين تخلفوا بطرابلس، ووقع بيني وبين صهري مشاجرة أوجبت فراق بنته، وتزوجت بنتًا لبعض طلبة فاس، وبنيت بها بقصر الزعافية، وأولمت وليمة حبست لها الركب يومًا، وأطعمتهم.

 

الوصول إلى الإسكندرية

ثم وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الإسكندرية حرسها الله، وهي الثغر المحروس والقطر المأنوس، العجيبة الشأن الأصيلة البنيان، بها ما شئت من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودين، كرمت مغانيها ولطفت معانيها وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها، فهي الفريدة في تَجَلِّي سناها، والخريدة تجلى في حلاها، الزاهية بجمالها المغرب، الجامعة لمفترق المحاسن لتوسطها بين المشرق والمغرب، فكل بديعة بها اجتلاؤها، وكل طرفة فإليها انتهاؤها وقد وصفها الناس فأطنبوا، وصنفوا في عجائبها فأغربوا، وحسب المشرف إلى ذلك ما سطره أبو عبيد في كتاب المسالك.

ذكر أبوابها ومرساها:

ولمدينة الإسكندرية أربعة أبواب، باب السَّدرة، وإليه يشرع طريق المغرب، وباب رشيد، وباب البحر، والباب الأخضر، وليس يفتح إلا يوم الجمعة فيخرج الناس منه إلى زيارة القبور، ولها المرسى العظيم الشأن، ولم أَرَ في مراسي الدنيا مثله، إلا ما كان من مرسى كولم وقاليقوط ببلاد الهند، ومرسى الكفار بسرادق ببلاد الأتراك، ومرسى الزيتون ببلاد الصين وسيقع ذكرها.

 

ذكر المنار :

قصدت المنار في هذه الوجهة فرأيت أحد جوانبه متهدمًا، وصفته أنه بناء مربع ذاهب في الهواء، وبابه مرتفع على الأرض، وإزاء بابه بناء بقدر ارتفاعه، وضعت بينهما ألواح خشب يعبر عليها إلى بابه، فإذا أزيلت لم يكن له سبيل، وداخله موضع لجلوس حارس المنار، وداخل المنار بيوت كثيرة، وعرض الممر بداخله تسعة أشبار، وعرض الحائط عشرة أشبار، وعرض المنار من كل جهة من جهاته الأربع مائة وأربعون شبرًا، وهو على تل مرتفع ومسافة ما بينه وبين المدينة فرسخ واحد في بر مستطيل، يحيط به البحر من ثلاث جهات إلى أن يتصل البحر بسور البلد، فلا يمكن التوصل إلى المنار في البر إلا من المدينة، وفي هذا البر المتصل بالمنار مقبرة الإسكندرية.

وقصدت المنار عند عودتي إلى بلاد المغرب عام خمسين وسبعمائةº فوجدته قد استولى عليه الخراب بحيث لا يمكن دخوله ولا الصعود إلى بابه، وكان الملك الناصر، - رحمه الله - قد شرع في بناء منار مثله بإزائه فعاقه الموت عن إتمامه.

 

ذكر أمير علابور استشهاده

وكان أمير علابور بدر الحبشي من عبيد السلطان، وهو من الأبطال الذي تضرب بهم الأمثال، وكان لا يزال يغير على الكفار منفردًا بنفسه فيقتل ويسبي حتى شاع خبره واشتهر أمره وهابه الكفار، كان طويلاً ضخمًا يأكل الشاة عن آخرها في أكلة، وأخبرت أنه كان يشرب نحو رطل ونصف من السمن بعد غذائه، على عادة الحبشة ببلادهم، وكان له ابن يدانيه في الشجاعة، فاتفق أن أغار مرة في جماعة من عبيده على قرية للكفار، فوقع به الفرس في مطمورة واجتمع عليه أهل القرية فضربه أحدهم بقتارة، والقتارة: حديدة شبه سكة الحرث يدخل الرجل يده فيها فتكسو ذراعه، ويفضل منها مقدار زراعين وضربتها لا تبقي، فقتله بتلك الضربة، وقاتل عبيده أشد القتال فتغلبوا على القرية وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وما فيها وأخرجوا الفرس، وتوجه إلى دهلي فخرج عليه الكفار، فقاتلهم حتى قتل، وعاد الفرس إلى أصحابه، فدفعوه إلى أهله، فركب صهر له فقتله الكفار عليه أيضًا.

ثم سافرنا إلى مدينة كاليور، ويقال فيه أيضًا كيالير، وهي مدينة كبيرة لها حصن منيع في رأس شاهق على بابه صورة فيل وفيال من الحجارة، وقد مر ذكره في اسم السلطان قطب الدين وأمير هذه المدينة أحمد بن سير خان فاضل كان يكرمني أيام إقامتي عنده قبل هذه السفرة.

ودخلت عليه يومًا وهو يريد توسيط رجل من الكفار، فقلت له: بالله لا تفعل ذلك فإني ما رأيت أحدًا قط يقتل بمحضري فأمر بسجنه، وكان ذلك سبب خلاصه.

ثم رحلنا من مدينة كاليور إلى مدينة برون، مدينة صغيرة للمسلمين بين بلاد الكفار أميرها محمد بن بيرن التركي الأصل، والسباع بها كثيرة، وذكر لي بعض أهلها أن السبع كان يدخل إليها ليلاً وأبوابها مغلقة، فيفترس الناس حتى قتل من أهلها كثيرًا، وكانوا يعجبون في شأن دخوله.

وأخبرني محمد التوفيري من أهلها، وكان جارًا لي بها، أنه دخل داره ليلاً وافترس صبيًّا من فوق السرير، وأخبرني غيره أنه كان مع جماعة في دار عرس، فخرج أحدهم لحاجة، فافترسه فخرج أصحابه في طلبه، فوجدوه مطروحًا بالسوق وقد شرب دمه ولم يأكل لحمه، وذكروا أنه كذلك فعل بالناس.

ومن العجب أن بعض الناس أخبرني أن الذي يفعل ذلك ليس بسبع، وإنما هو آدمي من السحرة المعروفين بالجوكية يتصور في صورة سبع، ولما أخبرت بذلك أنكرته، وأخبرني به جماعة ولنذكر بعضًا من أخبار هؤلاء السحرة.

 

ذكر السحر الجوكية

وهؤلاء الطائفة تظهر منهم عجائب منها: أن أحدهم يقيم الأشهر لا يأكل ولا يشرب، وكثير منهم تحفر له تحت الأرض وتبنى عليه، فلا يترك له إلا موضع يدخل منه الهواء، ويقيم بها الشهور، وسمعت أن بعضهم يقيم كذلك سنة.

ورأيت بمدينة منجور رجلاً من المسلمين ممن يتعلم منهم قد رفعت له طبلة، وأقام بأعلاها، لا يأكل ولا يشرب مدة خمسة وعشرين يومًا، وتركته كذلك فلا أدري كم أقام بعدي.

والناس يذكرون أنهم يركبون حبوبًا يأكلون الحبة منها لأيام، معلومة أو أشهر فلا يحتاج في تلك المدة إلى طعام أو شراب، ويخبرون بأمور مغيبة، والسلطان يعظهم ويجالسهم ومنهم من يقتصر في أكله على البقل، ومنهم من لا يأكل اللحم، وهم الأكثرون، والظاهر من حالهم أنهم عودوا أنفسهم الرياضة ولا حاجة لديهم في الدنيا وزينتها، منهم من ينظر إلى الإنسان فيقع ميتًا من نظرته، وتقول العامة: إنه إذا قتل بالنظر وشق عن صدر الميت وجد من دون قلب، ويقولون: أكل قلبه، وأكثر ما يكون هذا في النساء، والمرأة التي تفعل ذلك تسمى كفتار.

 

حكاية امرأة كفتار

لما وقعت المجاعة العظمى ببلاد الهند بسبب القحط، والسلطان ببلاد التلنك نَفَّذ أمره أن يعطي لأهل دلهي ما يقوتهم بحساب رطل ونصف للواحد في اليومº فجمعهم الوزير ووزع المساكين منهم على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامهم، فكان عندي منهم خمسمائة نفس، فعمرت لهم سقائف في دارين وأسكنتهم بها، وكنت أعطيهم نفقة خمسة أيام في خمسة أيام. فلما كان في بعض الأيام أتوني بامرأة منهم، وقالوا: إنها كفتار وقد أكلت قلب صبي كان إلى جانبها وأتوا بالصبي ميتًاº فأمرتهن أن يذهبوا بها إلى نائب السلطان، فأمر باختبارها، ذلك بأن ملئوا أربع جرات بالماء وربطوها بيديها ورجليها، وطرحوها في نهر الجون، فلم تغرق، فعلم أنها كفتار، ولو لم تَطفُ على الماء لم تكن كفتار، فأمر بإحراقها بالنار، وأتى أهل البلد رجالاً ونساءً فأخذوا رمادها، وزعموا أنه مَن تبخر به أمن في تلك السنة من سحر كفتار.

 

حكاية سحر الجوكية

بعث إليّ السلطان يومًا وأنا عنده بالحضرة فدخلت عليه، وهو في خلوة وعنده بعض خواصه ورجلان من هؤلاء الجوكية وهم يلتحفون بالملاحف، ويغطون رؤوسهمº لأنهم ينتفونها بالرماد كما ينتف الناس آباطهم، فأمرني بالجلوس فجلست، قال لهما: إن هذا العزيز من بلاد بعيدة فأرياه ما لم يره، فقالا: نعمº فتربع أحدهما ثم ارتفع عن الأرض حتى صار في لهناء فوقنا متربعًا، فعجبت منه وأدركني الوهم فسقطت إلى الأرض، فأمر السلطان أن أسقى دواء عنده، فأفقت وقعدت، وهو على حاله متربع، فأخذ صاحبه نعلاً له من شكارة كانت معه، فضرب بها الأرض كالمغتاظ، فصعدت إلى أن علت عنق المتربع، وجعلت تضرب في عنقه، وهو ينزل قليلاً حتى جلس معنا، فقال لي السلطان: إن المتربع هو تلميذ صاحب النعل، ثم قال: لولا أني أخاف على عقلك لأمرتهم أن يأتوا بأعظم مما رأيت، فانصرفت عنه وأصابني الخفقان، ومرضت حتى أمر لي بشربة أذهبت ذلك عني.

ولنَعُد لما كنا بسبيله فنقول: سافرنا من مدينة برون إلى منزل أموري ثم إلى منزل كجرا وبه حوض عظيم طوله نحو ميل، وعليه الكنائس فيها الأصنام قد مثل بها المسلمون، وفي وسطه ثلاث قباب من الحجارة الحمر على ثلاثة طِباق، وعلى أركانه الأربعة أربع قِباب، ويسكن هنالك جماعة من الجوكية وقد لبدوا شعورهم، وطالت حتى صارت في طولهم، وغلبت عليهم صفرة الألوان من الرياضة، وكثير من المسلمين يتبعونهم ليتعلموا منهم، ويذكرون أن من كانت به عاهة من مرض أو جذام يأوي إليهم مدة طويلة فيبرأ بإذن الله - تعالى -.

وأول ما رأيت هذه الطائفة بمحلة السلطان طرمشيرين ملك تركستان، وكانوا نحو الخمسين، فحُفِرَ لهم غار تحت الأرض وكانوا مقيمين به لا يخرجون إلا لقضاء حاجة.

ولهم شبه القرن يضربونه أول النهار وآخره وبعد العتمة، وشأنهم كله عجب، ومنهما الرجل الذي صنع للسلطان غياث الدين الدامغاني سلطان بلاد المعبر حبوبًا يأكلها تقوية على الجماع، وكان من أخلاطها برادة الحديد، فأعجبه فعلها، فأكل منه أزيد من مقدار الحاجة، فمات، وولى ابن أخيه ناصر الدين فأكرم هذا الجوكي ورفع قدره.

ثم سافرنا إلى مدينة جنديري، مدينة عظيمة لها أسواق حافلة يسكنها أمير أمراء تلك البلد عز الدين البنتاني هو المدعو بأعظم ملك، وكان خيِّرًا فاضلاً يجالس أهل العلم، وممن كان يجالسه الفقيه عز الدين الزبيري والفقيه العالم وجيه الدين البياني، نسبة إلى مدينة بيانة التي تقدم ذكرها، والفقيه القاضي المعروف بقاضي خاصة، وإمامهم شمس الدين، وكان النائب عنه على أمور المخزن سمي قمر الدين، ونائبه على أمور العسكر سعادة التلنكي من كبار الشجعان، وبين يديه تعرض العساكر، وأعظم ملك لا يظهر إلا في يوم الجمعة أو في غيرها نادرًا.

ثم سرنا من جنديري إلى مدينة ظهار، وهي مدينة المالوة أكبر عمالة تلك البلاد، وزرعها كثير خصوصًا القمح، ومن هذه المدينة تُحمل أوراق التنبول إلى دهلي، وبينهما أربعة وعشرون يومًا، وعلى الطريق بينهما أعمدة منقوش عليها عدد الأميال فيما بين كل عمودين، فإذا أراد المسافر أن يعلم عدد ما سار في يومه، وما بقي له إلى المنزل أو إلى المدينة التي يقصدها قرأ النقش الذي في الأعمدة فعرفه، ومدينة ظهار إقطاع للشيخ إبراهيم الذي من أهل ذيبة المهل.

اليوم أبتدئ القراءة بعد صلاة الصبح فأختم عند الزوال، وأجدد الوضوء وأبتدئ القراءة فأختم الختمة الثانية عند الغروب، ولم أزل كذلك مدة ثلاثة أشهر، واعتكفت فيها أربعين يومًا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply