معركة القدس وصلاح الدين الأيوبي


  

بسم الله الرحمن الرحيم

المعضلة التي نواجهها اليوم بشأن الدراسات التاريخية أن أصحاب هذه الدراسات يعملون على توثيقها بشكل دقيق بما لا يتيح أي إشكالية نقدية، حتى بدت عملية ترتيب الأحداث، وإعادة تركيبها في مجراها الصحيح هي الشغل الشاغل للكثير من الكتاب العرب، لتبدو المسألة في ظاهرها وكأنها عملية إعادة صياغة وتوثيق لمجمل أحداث وقعت في فترات زمنية متباعدة، ويرجع ذلك إلى مشكلات كثيرة أبرزها المنهج المتبع في عمليات قراءة التاريخ، والذي يعالج عملياً ظاهر النصوص المنقولة، دون افتراض لأن تكون هذه الآراء هي وجهات نظر، بمعنى إحالة الرؤية المعاصرة إلى رؤية معدة مسبقاً موجودة في صميم النص المنقول.

من هنا كثر لدينا كتاب التاريخ والذين تعاملوا مع النص بأمانة من حيث الشكلº دون القدرة على إعادة قراءة النص بما يتيح فهمه بما يتناسب ولحظة وقوعه، وبالتالي إعادة قراءة التاريخ على أرضية الاستفادة منه فيما يستجد من حوادث معاصرة، وليس على أرضية إعادة محاكمته ومحاكمة أشخاصه، والذين في أسوأ أحوالهم لم يصلوا إلى الحالة الراهنة من العجز والوهن، بل إن المنطق يقول: \"إن محاكمة العاجز شهادة زور لا تبرر العجز ذاته\".

اليوم وضمن الدلائل الراهنة تبرز لدينا أهمية معركة القدس، وهي التي شهدت فتحين متميزين في التاريخ، أولهما الفتح العمري، وثانيهما فتح صلاح الدين لها، وتميز الفتحان بتجنب القتال داخل مدينة القدس، وبقيت القراءات ناقصة لهذا العمل، ولم تعالج الأحداث والوقائع إلا في ظاهرها العام، دون الإحاطة ببقية الأمور، والتي كان ينبغي قراءتها للاستفادة منها ومن دلالاتها في معركة القدس القادمة - لا محالة - في مواجهة الكيان الصهيوني.

نعم نحن نعلم الكثير من الوقائع التاريخية، ولكن هل نستطيع الاستفادة منها، وربما على الأقل هل لنا أن نسأل عن السر الذي يجعل الغزاة الصهاينة يغوصون في أعماق تاريخنا، ومن ثم محاولة إحياء ما يناسبهم من إرساء عوامل الضعف بما يؤجل معركة القدس، وبالتالي إعطاء هذا الكيان القدرة على الصمود لفترة طويلة؟

 

القدس والقيمة الدينية:

القيمة الدينية للقدس لدى بعض الطوائف المسيحية عبر التاريخ هي في بعض الكنائس، بينما هي مختلفة تماماً لدى المسلمين، فهي ليست أرض الإسراء والمعراج فقط، بمعنى إن القيمة للمكان بحد ذاته، إنما هي الأرض التي قدمها القرآن الكريم لتكون بركة للعالمين كما ورد في الآيات التي تحدثت عن لوط - عليه السلام -، وكيف أنجاه الله إلى الأرض المباركة، وبالتالي عودة على بدء فإن كل الغزاة الذين دخلوا القدس أسالوا الدماء فيها بما أفقدهم هذه الميزة بأن يكونوا أهلاً لها، قادرين على صنع الخير للأمم من خلال امتلاكهم للمدينة، بمعنى إن الدلالة السياسية الأولى لأهمية القدس وضرورة أن تكون بأيدي المسلمين هي دلالة قرآنية، والحق يقال: إن القدس عندما تكون بيد المسلمين فإن المستفيد من ذلك الغرب كله، والعالم من ورائه، وعندما تتحول إلى أيدي الغرب ومن يسير بالفلك الغربي كالصهيونية فإن العالم كله يدفع ثمناً باهظاً، وعلى كافة الصعد حتى تعود إلى الديار الإسلامية.

فالقدس بأهميتها الدينية والسياسية تمثل خط التوازن في الكون، والمساس بها إنما ينعكس على العالم أجمع، والقدس بالنسبة لبيزنطة وريثة المسيحية الأولى هي ليست سوى مكان لبعض الرهبان والزهاد، ولم تُعط أهمية سياسية بالقدر المطلوب من إمبراطورية كانت تخوض الحرب تلو الأخرى، وعندما قررت غزو فارس كان ذلك ليس لأجل دخول الفرس لمدينة القدس، وإنما لأجل استرداد الصليب، والذي كان يعني وفق العقل الروماني الوثني هو الصلة الرابطة بالإله، لذلك رحل الرومان عن أرض فلسطين، ونطق هرقل بالجوهرة والتي تعتبر اليوم دليلاً قاطعاً على الغرب وذلك حينما قال: \"وداعاً يا سوريا وداعاً لا رجعة بعده\"، وكان هرقل على عظمته أكبر إمبراطور حكم بيزنطة، ولم يعترض على قوله ذلك أحد، لكن قوله أظهر أن القدس كانت بالنسبة لبيزنطة هي ذات دلالة سياسية، وليست ذات دلالة دينية، ولو أن القدس كانت ذات دلالة دينية لما تجرأ هرقل على وداعها معلناً أنه الوداع الذي لا رجعة بعده، وبالتالي إن هرقل هو الذي رسم الحدود السياسية بين العرب والمسلمين، وهو الذي أقر منذ تلك اللحظة بعودتها إلى الديار العربية التي تنتمي إليها، ولكن هذه المرة ثمة تعديل قد حدث فأهل هذه الديار اعتنقوا الإسلام.

 

الفتح في عهد صلاح الدين:

صلاح الدين الأيوبي يحاصر مدينة القدس الحصار الأخير لاستردادها من الصليبيين، لكن معظم الدراسات التي نقلت وقائع الأحداث توقفت عند حدود السرد التاريخي للوقائع، ولكن ثمة مظهر تجلى ذلك اليوم ينبغي دراسته ومقارنته بأرض الواقع، ومحاولة فهم المتناقضات الموجودة، والعمل على إعادة رسم صورة الغزاة آنذاك، ومقارنتها بأرض الواقع، حيث ثمة شبه واختلاف بين المشروع الصليبي والمشروع الصهيوني.

إن نظرة فاحصة إلى الأحداث التي سبقت فتح بيت المقدس تجعلنا نصل إلى معركة حطين، حيث رأى المؤرخون أن بوابة الدخول لتحرير القدس كانت في معركة حطين، والواقع أن ذلك غير دقيق بالمعنى السياسي وحتى العسكري، لأن الذي حدث في القدس هو ليست عملية عسكرية انتهت بفتح مدينة كانت محتلة، وإنما كانت العملية هي هزيمة الكنيسة الغربية بمجملها، وفشل مشروعها الديني الذي رفعته تحت شعار استرداد القبر المقدس، بل إن العالم الغربي كله انقلب من ذلك اليوم.

إذا كانت معركة اليرموك قد أخرجت الرومان من البلاد العربية، فهي كانت ضد إمبراطورية ستصبح فيما بعد أنقاضاً، بينما المعركة مع اللاتين كانت مختلفة تماماً، حيث إنها مع عالم يتشكل ويتفاعل باستمرار محدثاً المزيد من الحروب والدمار، فكان لا بد لهذه المعركة أن تأخذ شكلاً مختلفاً، فأي معركة وأي مدينة كانت تسقط بيد المسلمين آنذاك لم تكن تشكل صاعقة في الغرب، لأن تلك المدن ليست لها دلالة دينية، بينما القدس، وبعد ما نتج عن كليرمون، وبدء الحملات الصليبية أضحت في نظر الغرب ذات دلالة دينية واسعة، وهكذا فإن حطين حتى لو بلغت من الناحية العسكرية ما بلغته اليرموك فإنها بحد ذاتها كما هي اليرموك ذات دلالة أقل من دلالة تحرير القدس، وهذا بالنسبة للغرب، وليس بالنسبة لنا نحن.

 

معركة الأمة:

القدس هي معركة الأمة، ولذلك فإن الإعداد لها لن يكون أمراً سهلاً، فهي تستلزم أولاً حشد طاقات الأمة كاملة من أجلها، وهي الصورة التي سبق أن اكتشفتها المملكة اللاتينية في المنطقة، فالصليبيون كانوا يعتقدون أن إزالة الإسلام أمر ممكن، ولما تعذر عليهم ذلك بدؤوا يلعبون لعبة أخرى في سبيل البقاء في المنطقة، فاكتشفوا تناقضات المنطقة، وبدؤوا يعملون على تغذيتها، وبالتالي نجحوا لفترات طويلة في صناعة حلفاء لهم، حتى وصل الصليبيون إلى مرحلة اقتنعوا فيها بأنهم أصبحوا جزءاً من المنطقة، وبالتالي إن الذي فعله صلاح الدين أولاً هو إعادة رسم المنطقة من جديد وتوحيدها تحت خطبة الخليفة العباسي من الموصل إلى حلب إلى دمشق ووصولاً إلى مصر، وبهذه الدلالة أصبحت معركة الأمة جاهزة في وجه كيان بات محاصراً لا يجد حليفاً منقذاً له، لذلك فإن تحرير القدس كان بحد ذاته هو مشروع الأمة، فإن لم تقم به مجتمعة فسوف يطمع الغرب مجدداً باحتلالها، وكان يتطلب هذا المشروع أيضاً التشديد على الطابع الديني عليه بشكل يفوق اهتمام الصليبيين بهذا الجانب، فالصليبيون نجحوا في البقاء طوال الفترة الماضية لسبب وحيد هو عامل التجزئة، وبالتالي إن الطابع الديني للمعركة إنما يتطلب حشداً كبيراً، وتجميعاً للطاقات، بانتظار ردود الفعل الغربية على تحرير القدس، وقد حدث فعلاً أن سيّر الغرب الحملة الثالثة بعد سقوط القدس، وحدث أيضاً أن البابا في روما مات من هول الصدمة لدى سماعه الخبر.

 

عبقرية صلاح الدين:

عندما وقف صلاح الدين على أبواب القدس كان بمقدوره أن ينتزعها بالسيف، لكنه توقف عند حدود حصارها والقتال على أسوارها، وكانت الفرصة مهيأة له لأن ينتزعها بالسيف، ولكنه أخذها سلماً، وهنا ينبغي رؤية المفارقة، فما رآه صلاح الدين الأيوبي هو أن الصليبيين غادروا بلادهم إلى فلسطين باعتبارها أرض القبر المقدس، ومات منذ مئة عام مئات الآلاف من الناس على طول الطريق الممتدة من كليرمون وحتى القدس، فما الذي جعل الناس تزحف بهذه الحشود الأسطورية، وتخوض هذه الحروب الدموية؟ إنه بلا شك التصعيد الديني، والطابع الديني الذي اكتسبته الحملات الصليبية، تجلت عبقرية صلاح الدين أنه قَبِلَ بمبدأ المفاوضات، فسمح للرهبان بأن يأخذوا أموالهم مع حاجته لها لأنهم أصلاً اكتسبوها من المنطقة، ولكن بالمقابل كان على الرهبان أن يتنازلوا نهائياً عن القدس، وهكذا بعد مئة سنة باع الرهبان القبر المقدس وتنازلوا عنه مقابل المال؟ فأين هي جثث مئات الآلاف من البشر التي ذهبت على طول طريق كليرمون، بالتأكيد لقد باع الرهبان كل ذلك، وحتى باعوا القبر المزعوم للمسيح - عليه السلام - مقابل المال، وما فعله الرهبان هو إقرار من اللاتين بأن لا حق لهم في القدس، ولكنهم أخذوا المال فوق هذا الإقرار، ويسأل البعض أين تكمن عبقرية صلاح الدين، ونجيب إنه بهذا الفعل نجح بتجفيف المنابع الدينية للحملات الصليبية، وأصبح الغرب منذ ذلك التاريخ يطرح نفسه مستعمراً للقدس وليس صاحب حق ديني فيها.

لقد أراد صلاح الدين أن لا يكون في القدس أي أساس مادي لصراع ديني مع المسيحية في المستقبل، ونجح في ذلك.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply