حول الوحدة والتنوّع في تاريخنا


  

بسم الله الرحمن الرحيم

[1]

عندما تُطرح قضية التعدّدية في واقعنا المعاصر على بساط البحث، فإنها ستثير العديد من الأسئلة، قد يأخذ بعضها طابع التحدّي الذي يتطلب استجابة ما وينتظر جواباً

مقنعاً، وقد يبرز من بين هذه سؤالان أساسيان، يمضي أحدهما صوب المستقبل لكي يتابع طبيعة المتغيّرات التي يمكن أن تتمخّض عن أي محاولة جادّة تدخل في حوار فعّال مع ظاهرة التنوّع أو التعدديّة في الحياة العربية الإسلامية، ويمضي ثانيهما عائداً باتجاه الماضي موغلاً فيه حتى الجذور، لكي يتفحص حجم المحاولة على مستوى التاريخ، ولكي يضع يديه على مصداقيتها المتحققة في الزمان والمكان، ويؤشر بالتالي على فاعلية وخصوصيات التعامل الإسلامي مع الظاهرة على مستويي النوع والعدد.

وبالتأكيد، فإن القضية لا تتخلّق في الفراغ، كما أنها إذا استندت فحسب- على أصولها العقديّة التصوّرية بعيداً عن تماسّها مع الواقع، وقدرتها على إعادة تشكيله، فإنها قد لا تمنح ـ بالنسبة لفئة من الناس ـ القناعات المتوخّاة.

بعبارة أخرى، إننا إذا قدرنا على وضع أيدينا على مجموع الوقائع التي شهدها التاريخ في هذا السياق، بعد إضافة المؤثرات الإسلامية على الظاهرة..إذا قدرنا على تحديد النتائج المتميزة التي تمخّضت عن هذا التعامل بين العقيدة والتاريخ، فإننا سنعطي القضية المزيد من المسوّغات، وسنمنحها عمقاً تاريخياً واقعياً يُعدّ واحدة من الفرص الأساسية في اختبار الأفكار والعقائد والتصوّرات، وفي امتحان المحاولات التي تسعى إلى تشكيل المستقبل المنظور على هديها.

إن البُعد التاريخي لأي دعوى سيظل مطلباً لاختبار مصداقيّتها جنباً إلى جنب مع البعد التصوّري، ومدى ما يملكه من شمولية وتماسك وقدرة على الاستمرار بموازاة المطالب الإنسانية وتحديات التاريخ.

ولطالما دَرَسنا التاريخ الإسلامي أو دُرِّسناه وفق منطلقات خاطئة متعمَّدة حيناً، وغير متعمدة أحياناً، ولكن النتيجة كانت في معظم الأحيان تعميق الخندق بين طرفي القضية، وكأن ليس هناك تأثير ذو فاعلية عالية يلتقي فيه التصوّر مع الواقع لكي يعيد بناءه أو تشكيله، أو لكي يجري في تركيبه على الأقل تغييراً من نوع ما يعبّر في نهاية الأمر ليس فقط عن رغبة هذا الدين في إعادة صياغة العالم وفق منظوره ومقولاته، ولكن ـ أيضاً ـ عن قدرته على تحقيق هذا الهدف العزيز.

ومنذ بداية تشكّله الأولى وحتى العصر الحديث، تضمّن مجرى التاريخ الإسلامي خبرات وحدوية غنية متواصلة تجعل المرء يميل إلى الاعتقاد بأن التوجّه الوحدوي للأمة الإسلامية، على مُستويَي القواعد والقيادات، ليس مجرد خصيصة من خصائصها، بل هو محرك أساسي لمساحات واسعة من تحقّقها التاريخي.

لكن هذا ليس سوى أحد وجهَي الظاهرة أو الحالة التاريخية، وإن كان هو الوجه الأكثر ثقلاً وامتداداً، فهناك بموازاته، بل في نسيجه، تعدّدية من نوع ما.. تنوّع هنا

وهناك، في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الثقافة، وفي الفكر والمذهب، بل حتى في الدين. (لنتذكر ـ أيضاً ـ أحادية الماركسية ومصادرتها لفكر الآخر وعقيدته ودينه. لنتذكر أيضاً محاولة الكاثوليكية الإسبانية المسيّسة على يد فرديناند وإيزابيلا ورجال الدين، تلك التي ألغت أمة كاملة من الحساب. لنتذكر هذا قبالة تنوّع النسيج الديني في معظم مساحات التاريخ الإسلامي، حيث أُتيح للنصراني واليهودي والمجوسي والصابئي والبوذي والهندوسي.. إلى آخره.. أن يعبّر عن نفسه وأن يقول كل ما يريد أن يقوله، وأن يمتلك مقوّمات الديمومة والبقاء والامتداد في بيئة إسلامية لم تمارس-في الأعم الأغلب- أي مصادرة أو قسر أو نفي لعقائد الآخرين).

ولكن ـ أيضاً ـ وبمتابعة متأنية للتعددية أو التنوع في خبرتنا التاريخية، فإننا سنجد كيف أنها تتناغم ـ أحياناً ـ مع التوجّه الوحدوي بل قد ترفده وتدعمه وتغذَّيه، جنباً إلى جنب مع حالات الانشقاق والتضادّ والتنافر التي شكلتها بعض صيغ التعددية المتطرفة في موقفها إلى حدّ الخصومة والعزلة والانغلاق، بل ـ ربما ـ الإفساد والتخريب.

 

[2]

لنتابع ـ بالإيجاز المطلوب الذي يتيحه مقال كهذا ـ ثنائية العام والخاص، أو الوحدة والتنوع، في تاريخنا، في محاولة للإمساك ببعض خيوطها على الأقل.

فمنذ لحظات الرسالة بدا بوضوح ذلك التدرّج المرسوم من الخاص إلى العام: الإنسان والدولة والأمةº إذ يغدو التوحّد هدفاً عقدياً وسياسياً وتشريعياً.

أما في العصر الراشدي فقد شهد التوجّه الوحدوي للأمة الناشئة تحركاً

على مستويين: تمثل أوّلهما في التصدّي الحاسم للردّة والتمزق والتفوّق عليهما، على الرغم من ضراوتهما، إزاء انحسار القدرات السياسية والعسكرية للدولة الإسلامية. وتمثل ثانيهما في حركة الفتوحات الشاملة التي استهدفت تكوين الوحدة الإسلامية العالمية، وتمكنت ـ بالفعل ـ من تحقيقها، فيما لم يشهد التاريخ مثيلاً له في كثافة معطياته واختزاله الزمني.

وكما كانت حركة الردّة حالة عارضة طارئة باتجاه التمزّق، ما لبثت القيادة الراشدة أن طوتها لكي تواصل الطريق صوب العالمية، فإن الفتنة التي شهدتها دولة الإسلام في أواخر خلافة عثمان (رضي الله عنه) قدمت نموذجاً لحالة اعتراضية أخرى، مارست فيها (القبلية) تأثيراً ملحوظاً، وكادت تُلحق بوحدة المسلمين أذى كبيراً، ثم ما لبثت أن طُويت فيما سُميّ بعام الجماعة (41 هـ) وهي تسمية تحمل دلالتها ولا ريب، حيث أُتيح للقيادة الأمويةـ بغض النظر عن الجدل حول مسألة الحكم أو الشرعيةـ أن توحّد الأمة، وأن تمضي خطوات أخرى باتجاه توحيد العالم تحت ظلال الإسلام.

ثم جاءت العصور التالية لكي تشهد صيغاً متنوعة للممارسة الوحدوية يمكن تصنيفها وفق السياقات الأساسية الآتية:

أولاً: مجابهة محاولات الانشقاق والتفكك (التحدّيات الداخلية).

ثانياً: الدفاع عن وحدة الأرض الإسلامية (التحديات الخارجية).

ثالثاً: ظهور التنوّع في القيادات السياسية والإقليمية وتأكّده، مع الحفاظ على الوحدة في الأسس والأهداف والملامح العامة.

وإذا كان السياقان الأوّلان واضحين إلى حدّ كبير في توجّهاتهما الوحدوية فضلاً عن أنهما قيل فيهما الكثير، فإن من الضروري أن نقف لحظات عند السياق الثالث لتبيّن طبيعة العلاقة بين الثوابت الوحدوية وبين التنوّع والتغاير الذي قد يتحرك في إطار هذه الثوابت، وقد يخرج عنها ـ بدرجة أو أخرى ـ إلى حالة من التفكّك الذي يندفع باتجاه التشرذم العرقي حيناً، أو التعبير عن طموح فرديّ أو سلاليّ حيناً آخر.

وفي الحالتين كانت الظاهرة التعدّدية تتحرك بشكل عام باتجاه مضادّ لوحدة الأمة والدولة، وتضع الخلافة (الأم) أمام الأمر الواقع، فتقرّ بقبولها حيناً فيما يصطلح عليه الفقهاء بـ (إمارة الاستيلاء)، أو تعلن الحرب عليها حيناً آخر. وثمة حالة ثالثة كانت الخلافة تستبق فيها المتغيرات التاريخية الضاغطة فتسارع في تصميم أو قبول (الكيان الإقليمي) الذي يعينها على مجابهة هذه المتغيّرات أو التخفيف من نتائجها، ويكون (لها) بدلاً من أن يكون (عليها).

ولقد انطوت التعدديّة السياسية في تاريخ الإسلام على الإيجاب والسلب معاً، ذلك أن التفكك ـ ابتداءً ـ ظاهرة تتعارض مع التوجّهات الوحدويّة التي سهر الإسلام وقياداته السياسية على صياغتها وحمايتها، بل إنها قد تندفع ـ كما ألمحنا ـ باتجاه التشرذم العرقي أو السلالي، وقد تعبّر عن طموح فردي، هذا فضلاً عن أنها فتحت الطريق لخصوم الأمة لكي يدلوا بدلوهم ويقيموا دولهم وكياناتهم السياسية التي رفعت سيف المذهب أو القوّة في مواجهة قناعات الأمة وثوابتها العقدية والسياسية (كما هو الحال في بعض التجارب الإسماعيلية والباطنية).

لكن هذا كله ليس الوجه الوحيد للظاهرة، فهناك الوجه الآخر الذي ينطوي على معطيات إيجابية، بدءًا من قبول الخلافة والأمة للتعدّديّة في بعض الأحيان وعدم رفضها أو إعلان الحرب عليها، وانتهاءً بالجهد العقديّ والسياسيّ الذي نفذه العديد من الكيانات الإقليمية لصالح الأهداف العامة للأمة والخلافة، دفاعاً عن دار الإسلام، ونشراً للعقيدة خارج الأرض الإسلامية، أو تأكيداً لحيثياتها في مواجهة الخصوم في الداخل، هذا فضلاً عن إثراء حضارة الإسلام بمفردات خصبة في هذا السياق أو ذاك.

ويصعب على المرء أن يخضع الحركة التاريخية للقياس بالمسطرة، وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نصدر حكماً أحادي الرؤية على التنوّع أو التعدّديّة السياسية في تاريخناº فهي قد تضمنّت ـ كما رأينا ـ السلب والإيجاب معاً، فلم تكن شراً كلها، كما أنها لم تبلغ الحالة الإيجابية التي تختار فيها الجماعات ـ في إطار الثوابت الإسلامية بطبيعة الحال ـ

(تنظيمها) لحياتها بما يضمن لها حقوقها وحرّياتها في الرأي والتعبير والاجتماع والمشاركة في تقرير السياسة على قدم المساواة مع غيرها، مهما كان حجمها، مع التزامها ـ مرة أخرى ـ بالواجبات التي يفرضها عليها انتماؤها للأمة الواحدة.

وعلى الرغم من ذلك فإن بمقدور المرء أن يلحظ كيف أن التعدّديّة السياسية في تاريخنا لم تبلغ- إلاّ في حالات استثنائية لا يُقاس عليها- أن تدخل عنق الزجاجة أو تصل إلى الطريق المسدود، فتكشف عن وجه عرقي يميل إلى اعتزال قضايا الأمة أو ربما إعلان الحرب عليها، فيما يضعه في خط التشرذم الإقليمي الذي عانت منه أمتنا، ولا تزال في أعقاب الصدمة الاستعمارية وقبول فكر الغالب.

 

[3]

إن حضارة الإسلام وتاريخه عموماً- كما لاحظ كثير من المؤرخين والمستشرقين- هي حضارة (الوحدة والتنوّع)، ولقد انعكس ذلك على ظاهرة نشوء الدويلات والكيانات الإقليمية في عالم الإسلام، فصرنا نجد تنوّعاً في التشكيلات السياسية التي انشقت عن جسد الدولة، ونجد في الوقت نفسه وحدة وتجانساً وتكاملاً في العطاء الحضاري، وفي الأساليب والأهداف الكبرى.

وفيما عدا حالات محدودة شاذة عن القاعدة الشاملة، حالات ظهر فيها عدد من الدويلات تبنّت مبادئ وعقائد باطنية وشعوبية ذات جذور غريبة عن عقيدة الإسلام وتصوّراته وقيمه، ومارست قواها الذاتية لا في الدفاع عن أرض الإسلام وعقيدته ووحدة مقدّراته، وإنما ضدّها (كما فعلت دولة قرامطة البحرين على سبيل المثال)، بل إن بعضها (كالدولة البابكية في أذربيجان) سعت إلى عقد محالفات ومواثيق مع الأعداء الخارجيين المتربّصين على الحدود.. فيما عدا هذه الحالات فإن معظم التشكيلات السياسية التي شهدها عالم الإسلام، شاركت حسب قدراتها وطاقاتها في خدمة وحدة هذا العالم عقدياً وسياسياً وحضارياً، ولن تغني الأمثلة الموجزة هنا عن واقع تاريخنا نفسه.

إن حضارة الإسلام إذ تقوم على قاسم مشترك من الأسس والثوابت والخطوط العريضة، بغض النظر عن موقع الفعالية الحضارية في الزمان والمكان، وعن نمطها وتخصّصها، فإنها تنطوي ـ في الوقت نفسه ـ على حشد من الوحدات المتنوعة بين بيئة ثقافية وأخرى في إطار عالم الإسلام نفسه، بحكم التراكمات التاريخية التي تمنح خصوصيات معينة لكل بيئة، تجعلها تتغاير وتتنوّع فيما بينها في صنوف من الممارسات والمفردات الثقافية.

إنها جدلية التوافق بين الخاص والعام، أو ما يمكن عدّه أممية إسلامية تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم، ولكنها تسعى في الوقت نفسه لأن تجمعها على صعيد الإنسانية، وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الماركسية التي سعت ـ ابتداءً وبحكم قوانين التنظير الصارمة- إلى إلغاء التنوع، ومصادرته، وإلى تحقيق وحدة قسرية ما لبثت أن تأكد زيفها وعدم قدرتها على التحقّق تاريخياً. وبمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي حتى قبل حركة (البرسترويكا) والرفض المتصاعد الذي جوبهت به الأممية الماركسية من قبل الجماعات والأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة، ومقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وثوابتها وأسسها الواحدة وأهدافها المشتركة، يتبين مدى مصداقية المعالجة الإسلامية وواقعيتها في التعامل مع هذه الثنائية كواحدة من حشود الثنائيات التي عولجت بالقدرة نفسها من الانفتاح في الرؤية والمرونة في العمل.

لقد شهد عالم الإسلام ـ بموازاة التنوع السياسي ـ أنشطة ثقافية متمايزة على مستوى الأعراق التي صاغتها: عربية وتركية وفارسية وصينية ومغولية وبربرية وإسبانية وزنجية وكردية وأفغانية وسلافية.. إلى آخره. كما شهدت أنماطاً ثقافية على مستوى البيئات والأقاليم: عراقية وشامية ومصرية وسودانية ومغربية وإسبانية وبحر متوسطية وإفريقية وأوروبية شرقية وإيرانية وتركية وتركستانية وصينية وهندية.. إلى آخره.

وكانت كل جماعة ثقافية تمارس نشاطها بحرية، وتعبر من خلاله عن خصائصها، وتؤكد ذاتها، ولكن في إطار الأسس والثوابت الإسلامية، بدءًا من قضية اللغة والأدب، وانتهاء بالعادات والتقاليد، مروراً بصيغ النشاط الفكري والثقافي بأنماطه المختلفة. ولم يقل أحد إن في هذا خروجاً عن مطالب الإسلام التوحيدية، كما إن أحداً لم يسع إلى مصادرة حرية التغاير هذه. وفي المقابل فإن أياً من هذه المتغيّرات لم يتحول ـ إلاّ في حالات شاذة ـ إلى أداة مضادّة لهدم التوجهات الوحدويّة الأساسيّة لهذا الدين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply