وقفة مع التاريخ


  

بسم الله الرحمن الرحيم

تخيل معي أخي القارئ الكريم أمة مجدوعة التاريخ، مقطوعة التراث، محرومة القيم. لا تاريخ لا أخلاق لا قيم. إنك لتنظر إلى السماء فتجدها محكمة البناء، سميكة الأطراف، باسقة الارتفاع، أجرامها وأفلاكها منظومة متكاملة. (كل في فلك يسبحون) وتلج الحديقة الغناء فتسترعي انتباهك الأشجار الملتفة، والأغصان الحانية، والهواء السجسج، والماء النمير، والطيور الحالمة. كل لا يتجزأ من تلك السنة الربانية البديعة: (صنع الله الذي أتقن كل شيء). ولو تخيلت أمة لا تاريخ لها، ولا تراث ولا قيم، لا حاضر يربطها بتاريخها ووحي عقيدتها، لا تراث تفاخر بمآثره محققة حضورها من خلاله، لا قيم نبيلة تدفعها بقوة لعمارة الأرض على منهج الله... لاستنكرت الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم ولاستهجنت الأقلام المسمومة ومحاولتها تمزيق تاريخنا العريق، وتشويه تراثنا العظيم، وطمس مواقف علماء الأمة الأبرار في تمحيص الحق ودحض الباطل، وتزوير قيمنا النبيلة.لم يتعرض تاريخ أمة للتشويه كما تعرض تاريخنا العملاق. لماذا؟ لأن التاريخ ينبع أصلاً من عقيدة الأمة، ويلهمها مدى الزمان.

 

انظر إلى تاريخ يهود. ماذا ترى؟ لما ملئ خسة وغدراً وفجوراً صار أتباعه كذلك. اطلع على تاريخ ما قبل الإسلام وما عاشته الأمة من تخبط وفوضى، وتاريخ البعثة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، تجد تلك النقلة النوعية والقفزة الجبارة في المفاهيم والتصورات والأنماط السلوكية، وتتبع ما تلاه من تاريخ الفتوحات الإسلامية المشرق، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وما تخلله من تاريخ التحصيل العلمي والجهد الدؤوب ومواصلة الليل بالنهار، وطواف الدنيا على رغم شحة الإمكانيات، وصعوبة المواصلات.. الخ بحثاً وتعلماً وتعليماً وجهاداً ودعوة، فإن ذلك يكفيك لأن ترد الأمور إلى نصابها، وتقمع تلك الأفكار الهدامة، وتلك اللوثة الحداثية الضالة، ولعلك تسّاءل: لماذا شوه المستعمر اللعين تاريخنا الإسلامي؟ وما الذي ساعده في ذلك؟ وما أثر ذلك؟

 

لما انتهت الفتوحات الإسلامية شيد المسلمون مواضع لخدمة الناس جميعاً على الطرق العامة، وكان الأمير هو الذي ينفق على هذه المراكز، وكان يحق لكل مار أن يبقى فيها ثلاثة أيام، تقدم له فيها الأطعمة والشراب ووسائل النوم والراحة وكل ما يحتاج إليه من دون مقابل، ويقدم إلى جانب ذلك العلف لراحلته في بناء مجاور، ولا تزال آثار هذه الخدمات قائمة إلى الآن، وهي في المدن على شكل طابقين، وغالباً ما يستعمل الأول وهو الأرضي للحيوانات والثاني للمسافرين (الآن البيوت في الريف اليمني على هذا النحو) وقد يكون بجانب كل خان أو مركز دار فخمة للثياب فيما إذا اضطر أحد المسافرين إلى تغيير ثيابه لسبب من الأسباب، فإنه يستبدلها بالمقياس نفسه، ويترك ثيابه من دون مقابل، ويصلح المركز ثيابه المتروكة، ويدبر أمرها لحاجة تستجد في المستقبل.

 

أخي الكريم. هذا نموذج من نماذج الرحمة والإنسانية العطرة في تاريخك الجميل، وأثر بسيط من آثار الحضارة المنبثقة أصلاً من تصورات أولئك الأفذاذ قبل أن تنبعث على أرض الواقع. تملّ هذه الصورة جيداً، إن تاريخك النبيل يطفح بمثل هذه المواقف وغيرها، قل لي بربك: ماذا يتملكك من شعور حين تتأمل هذه الصورة الفائقة؟ من أي مشكاة مجد خرج الذين فعلوا ذلك؟ ومن أي ضحضاح كرم تدفقوا؟ ومن أي فجر كتاب سطعوا وأشرقوا؟ نعم الحضارة نشاط إنساني، لكنها تصبح تسلطاً وإرهاباً إن لم تكن ذات بعد إنساني وقيم إنسانية. الحضارة إن لم تكن عقيدة صافية، وقلباً ينبض بها حباً وذوقاً وفكراً وسطاً معتدلاً، وسلوكاً براً رحيماً، وحركة على بصيرة وهدى، فهي عبث بالإنسان، وانحراف بالفطرة مشين. وإنك حين تنظر إلى خط انحراف الأمة عبر مسيرها الطويل، من أين بدأ؟ وكيف بدأ؟ وما آثاره؟ وكيف هوت الأمة من القمة الشامخة إلى الحضيض الذي تعانيه الأمة اليوم؟ كيف تحولت الأمة من ماضيها المجيد إلى حاضرها الأليم؟ وظهرت العوامل الداخلية التي أودت بها، من انشقاق المسلمين إلى فرق، واشتغالهم بعلم الكلام والفلسفة، والانقسامات السياسية لدولة الإسلامº والعوامل الخارجية كذلك، من غزو مغولي، وحروب صليبية، وحركات استعمارية، وما تخللها من حركات استشراقية وتبشيرية حتى قال اللورد أللنبي القائد الإنجليزي، وهو يطأ بأقدامه القدس الشريف سنة 1337هـ، قولته الشهيرة: الآن انتهت الحروب الصليبية... إنك عندما تدرك ذلك ينتابك الأسى، ويطغى عليك البكاء المرير طويلاً. وأهم نجاح حققه المستعمر بعدما قسم تركة الرجل المريض، على حد زعمهم، هو تشويه التاريخ الإسلامي، وإسقاط دور العلماء في حركات المقاومة عبر تاريخ الأمة الطويل كي ينشأ الجيل الإسلامي مفصولاً عن تاريخه عن تراثه عن قيمه، مجهول الهوية، وصدق من قال:

 

مثل القوم نسوا تاريخهم *** كلقيط عيّ في الناس انتسابا

أو كمغلوب على ذاكرة *** يشتكي من صلة الماضي انقضاباً

 

قلب صفحات التاريخ الإسلامي اليوم في بعض المدارس والجامعات، ثم خبرني عن رسالة القرآن، وعن سير الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأخذ الدروس المستفادة منها، وعن دور العلماء في حركات المقاومة والتحرير على المدى الطويل، وعن جهد العلماء المضني في إسعاد البشر بالبحث والتحصيل، والجرح والتعديل، خبرني عن جهاد العز بن عبد السلام والظروف التي نشأ فيها، عن جهاد ابن تيمية، عن عمر المختار، وعز الدين القسام، وكتائب الإخوان وصحراء النقب، خبرني عن الملك العادل المسلم الهندي (أورنك زيب)، أشبه الملوك سيرة بالخلفاء الراشدين.

 

إننا أمة تجهل تاريخها.. إن تاريخنا لم يكتب بعد... وهو بحاجة إلى بحث وتنقية وتعب، ونحن أمة كسل يقول الشيخ محمد الغزالي وهو يتحدث عن الأيادي الخبيثة التي شوهت وزورت تاريخ الأمة: وإنها لخسة محقورة أن يجرد الشريف من فضائله ثم يطرح عليه معايب الآخرين... ولكن ذلك وقع، فقد محيت الصبغة الدينية عن الثورة العرابية، وعرضت في الكتب المدرسية وغيرها مجردة من طابعها الإسلامي، كما يجرد الدم من كراته الحمراء والبيضاء، فماذا يبقى منه؟.

 

وأنا شخصياً أعرف تاريخ الثورات اليمنية تماماً، فعلى رغم أن وقودها الأول العلماء فكرة تنظيماً ومنهجاً، جردت من كل تلك الحقائق، وزعم أن الثورة فكرة برقت في الرأس فجأة، من دون مقدمات، وقام بها العسكريون وكللت بالنجاح!! وإذا سلمنا بما هو مكتوب من دون تمحيص، فمعنى ذلك أن الإسلام مخدر للشعوب، والعلماء دراويش رجعيون، ليس لهم القدرة على متابعة الأحداث، ومواكبة المستجدات، ويكفي هذا نجاحاً للأعداء، ولكن الله غالب على أمره.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply