إن بطش ربك لشديد


  

بسم الله الرحمن الرحيم

في عام 1095م بدأت الحملات الصليبية (تسع حملات) بتحريض من البابا لاسترداد الأرض المقدسة ولإيقاف المدّ الإسلامي نحو أوروبه (الذي بدأه العرب بفتح الأندلس وواصله سلاجقة الترك المسلمون بقمع الروم عام 1071م). واستطاع الصليبيون احتلال القدس عام 1099م، ثم ظهر عليهم المسلمون بحطين عام 1187م، وانتهت آخر حملاتهم عام 1270م. ودكّ المسلمون آخر إمارة صليبية عام 1291م. وفي عام 1206 م، بعد قرن تقريباً من بدء حملات الصليبين، وحّد جنكيز خان المغول، فغزا بهم بلاد المسلمين من خوارزم حتى إيران، ثم احتلوا بغداد عام 1258 م ثم الشام حتى غزّة، وأخيراً سحقهم المسلمون بعين جالوت عام 1260م.

 

وَلَنُذِيقَنَّهُم مِنَ العَذَابِ الأَدنَى دُونَ العَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ {21} السجدة

 

في حوالي عام 1330م، أذن الله أن يخرج الطاعون من صحاري بلاد المغول. وهو وباء لم يشهد التاريخ مثله. فمات ملايين الناس في تلك الأنحاء خلال سنوات معدودة. ومات من الصين وحدها ملايين كثيرة خلال القرن 14م، فنقص أهلها من 125 مليون نفس إلى حوالي 90 مليوناً. ووصل الوباء أوروبه، بلاد الصليبيين، في أكتوبر 1347 عبر صقلية من سفن إيطالية موبوءة قدمت من البحر الأسود. فانتشر الطاعون بأوروبه، ومن شدّة انتشاره وفتكه بالناس كتب أحد مؤرخيهم: أن الناس كانوا يتناولون الغداء مع أصدقائهم ويتناولون العشاء مع أسلافهم. وبأغسطس من السنة التالية وصل الطاعون بريطانيه وفتك خلال سنتين بنصف سكان لندن. وكان أحد أنواعه يهدأ بالشتاء ثم يعاود بعده أشد فتكاً وانتشاراً، وخلال خمس سنوات (من 1347 حتى 1352) قضى على 25 مليوناً من أوروبه (حوالي ثلث بلاد الصليبيين). واستمر فتك الطاعون بالناس بشكل أقل ولم ينته تماماً حتى عام 1600م وقيل حتى ما بعد 1700م. وذعر الناس وحسبوه يوم القيامة وكم استغاثوا بالكنائس ورجال الدين والقديسين والمسيح دون جدوى، مما دفعهم للشك في معتقداتهم حتى اليوم.

 

وَكَذَلِكَ أَخذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ {102}هود

 

والوباء في الأصل يهاجم القوارض (كالفئران) ثم ينتقل منها للإنسان عن طريق نوع من البراغيث. وهذا الوباء نوعان أحدهما، وهو الغالب، ليمفاوي دموي وهو صيفي (يتسبب في انتفاخ ثم تفجير الغدد الليمفاوية بالعنق، ويسبب تكون عجر حمراء بجسد المصاب تتحول لسوداء، فسمي الموت الأسود، وفيه كان يقيء خلالها المصاب دماً حتى يموت خلال ثلاثة أيام إلى أقل من أسبوع). وكان أخطر أنواعه الرئوي وهو شتوي، فإذا أصاب الإنسان، لا يمهله سوى ثلاثة أيام فقط. وهذه الأيام القليلة المعدودة لكلا النوعين قبل الوفاة هي مهلة عجيبة لا تختلف باختلاف الشخص ولكن سرت على كل من فتك به المرض، وهذا أمر يستدعي التأمل في هذه الآيات العظيمة:

 

فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُم ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ, ذَلِكَ وَعدٌ غَيرُ مَكذُوبٍ, {65} هود

 

وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهُوا خَيرًا لَّكُم إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً {171} النساء

 

لَّقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ, وَمَا مِن إِلَـهٍ, إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّم يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ {73} المائدة

 

وقيل أن الوباء كان يسلك نفس طرق التجارة، ولكن والله أعلم، لعله سلك نفس طرق الحملات الصليبية والمغولية الظالمة.

 

وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذنَا مِيثَاقَهُم فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغرَينَا بَينَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاء إِلَى يَومِ القِيَامَةِ{14} المائدة

 

وقد أكّدت كل الشواهد والأخبار من أهلها حول الموت الأسود، أن أحدهم إذا أصيب بالمرض تخلّى عنه كل أهله ولا يرعاه أحد حتى يموت، وتباغض الناس وتنافروا من بعضهم وتكارهوا وتجافوا على مدى قرنين من الزمان أو أكثر. وقد شهدنا أعنف بغضاء بينهم خلال القرن العشرين، وما أكثر ما ينتظرهم إلى يوم القيامة إن لم يتوبوا إلى الله.

 

وَإِن عُدتٌّم عُدنَا {8} الإسراء

 

قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَر لَهُم مَّا قَد سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَد مَضَت سُنَّةُ الأَوَّلِينِ {38} الأنفال

 

وقد أعادوا الكرة منذ حوالي أربع مئة عام ولم يعتبروا من الماضي، فطردوا المسلمين من بلادهم وسفكوا دمائهم ثم خرجوا من ديارهم بطراً ليحتلوا بلاد المسلمين ويحاربوا دين الله، فأعادوا نفس غلطة الأجداد، فأمهلهم الله حتى بداية القرن العشرين ليذيقهم عذاب وبأس وبغضاء حربين عالميتين وفي عقر دارهم لم يشهدوا مثلها قط في تاريخهم، أفنت منهم ما قارب المائة مليون نفس خلال أقل من نصف قرن.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply