الإصلاح الإسلامي في الهند


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

بعد وفاة الملك الصالح (أورنك زيب) تردت الحالة السياسية للمسلمين في شبه القارة الهندية، فالملوك الذين خلفوه كانوا ضعافًا ولم يقم واحد منهم بتجديد قوة الدولة، وخلال نصف قرن حكم الهند أحد عشر ملكًا، كانت الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، فالإنكليز يتدخلون بخطوات ماكرة، وعصابات الهندوس (المراهقة) تغير على المدن الإسلامية فتشيع الخراب والدمار.

في هذا الظلام الدامس، قيض الله للمسلمين عالمًا جليلاً أعاد للإسلام بهاءه ورونقه، ونفخ في المسلمين روحًا قوية آتت ثمارها جيلاً بعد جيل، إنه الشيخ أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي الملقب بـ (ولي الله الدهلوي) (1114 ـ 1176 هـ) (1703 ـ 1762 م).

وهو من عائلة مشهورة بالعلم والفروسية، فوالده عبد الرحيم كان عضوًا في لجنة العلماء التي عُهد إليها بترتيب الفتاوى الهندية المشهورة بـ (العالمكيرية) وبإشراف الملك أورتك زيب، وجدّه وجيه الدين كان من الصلحاء والشجعان المشهورين.

تربى ولي الله الدهلوي ونشأ نشأة علمية إسلامية، وفي الثلاثين من عمره رحل للحج وأقام في الحجاز لمدة سنة، ودرس خلالها علم الحديث على الشيخ محمد بن إبراهيم الكردي المدني، وعن طريق هذا الشيخ تعرف الدهلوي على آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، وسيكون لهذه الصلة بتراث ابن تيمية أثر كبير في دعوته بعد رجوعه للوطن، وفي مدينة دلهي قام ببث دعوته وعلمه وأدار الإصلاح الذي يريده على الجوانب التالية:

1 ـ تصحيح العقائد وإزالة الشرك والخرافات والبدع، وبيان أن سعادة الإنسان هي في معرفة الله بصفاته وأفعاله والقيام بالعبودية الخالصة لله.

2 ـ تجديد الصلة بالقرآن وإرجاع الناس إلى المصدر الأول للنهضة والإحياء، والمصدر الأول لفهم الدين وهداية الناس إلى المدنية الصحيحة. وهذا الرجوع للقرآن ليس للمتعلمين فقط، بل لعامة المسلمين، ولأهمية هذا الموضوع قام الشيخ بترجمة معاني القرآن إلى الفارسية (لغة العلم يومها) ثم قام ابنه عبد القادر بترجمة المعاني إلى الأوردية، وحتى يقرب القرآن إلى طلاب العلم ألف رسالة قيمة في أصول التفسير سماها: (الفوز الكبير).

3 ـ كانت مدارس العلم وطرق المشايخ تركز على المختصرات والحواشي، وعلم الكلام وفلسفة اليونان، وابتعدوا عن السنة وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرر الشيخ تدريس البخاري ومسلم وبقية الكتب الستة، وأثمرت هذه الجهود وبارك الله فيها، فشاع الاهتمام بالحديث في أنحاء الهند، يقول الشيخ رشيد رضا: «ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر، لقضي عليها بالزوال في أمصار الشرق»، وفي جهود الشيخ في هذا المجال شرحه للموطأ بالفارسية والعربية، ثم اتجهت جنود الشيخ للتوفيق بين الفقه والحديث، وأبدى رأيًا معتدلاً منصفًا في المذاهب الأربعة، وتكلم عن الاجتهاد والتقليد، مما يدل على طبيعته المتزنة وذوقه الصحيح وواقعيته.

4 ـ الاهتمام بالتاريخ الإسلامي والنظر فيه من ناحية التوافق بين الإسلام وبين حياة المسلمين، وفرّق الشيخ بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين، وألف كتابه الشهير: (إزالة الخفاء عن تاريخ الخلفاء) وبرهن فيه أن إثبات خلافة الخلفاء الراشدين في أصول الدين وأن التطبيق العملي لتعاليم الإسلام ظهر على أتم صورة في عهد الراشدين. وفي خلال تأملاته في التاريخ الإسلامي رأى أن أسباب تأخر المسلمين يرجع إلى:

أ ـ الاستبداد السياسي.

ب ـ إغلاق باب الاجتهاد والتحقيق.

ولكن أعظم عمل علمي قام به هذا المجدد هو في تأليف كتاب (حجة الله البالغة) الذي تكلم فيه عن أسرار الشريعة الإسلامية في صورة متسقة، مدعمة بالحجج والدلائل، وقد تكلم عن: الإيمان والعبادات والمعاملات والأخلاق والمدنية والسياسة، مع توضيح الفرق بين الأصول والفروع، وبين المقاصد والوسائل.

5 ـ لم يكن الشيخ الدهلوي من أولئك العلماء الذين ينشغلون بالتأليف والتدريس ولا يهتمون بأمور المسلمين، بل كان على علم بتفاصيل ما يجري في الحياة السياسية للمسلمين في الهند، وأسباب تدهور الدولة، وكان يعمل بجد ونشاط لاستعادة السلطة الإسلامية، ورأى بثاقب نظره أن الهند بحاجة إلى قوة إسلامية تأتيها من الخارج، قوة دافقة الحيوية تجدد للمسلمين من عزيمتهم وثقتهم بأنفسهم أمام عصابات (المراهتة) وعصابات (الزط).

ووجد الشيخ بغيته في والي مدينة قندهار الأفغانية أحمد شاه الأبدالي (1136 ـ 1186 هـ) (1723 ـ 1772 م)، وهو شخصية قيادية سياسية فيه حمية ودين، وفيه فروسية وأخلاق.

قام الشيخ بمراسلة هذا القائد وطلب منه الإسراع في المجيء للهند وكتب له: «نسأل الله - تعالى - أن يكتب لكم في صحيفتكم ثوابًا عظيمًا، ويسجل اسمكم في صفحة المجاهدين في سبيل الله، وإن هزيمة المراهتة هينة سهلة شريطة أن يشمر غزاة الإسلام عن ساق الجد والاجتهاد. كل مهارة (المراهتة) في جمع العدد الكبير، أما البطولة والشجاعة فليست فيهم».

وفي عام 1174هـ الموافق 14/12/1761م وقعت المعركة الحاسمة على أرض (باني بت) وتمزق (المراهتة) وهزموا شر هزيمة، وكانت معركة غيرت مجرى تاريخ الهند حين أخرجت (المراهتة) في الخارطة السياسية، ووقع ما توقع الشيخ من هزيمتهم، ورجع أحمد شاه الأبدالي إلى وطنه الأفغان بعد أن مكث في دلهي أيامًا.

كانت أعمال الشيخ الدهلوي منصبة على التأسيس والتأصيل وإزاحة العقبات، وصقل الأذهان، كان تجديدًا علميًا أما التجديد العملي ومقاومة الطغيان والفساد، ومحاولة تأسيس دولة إسلامية فسيكون في نصيب أحفاده وتلامذة مدرسته (حركة أحمد بن عرفان الشيهد) وكما يقال: إن الفكرة ليست ذلك الماء الهادر بين الصخور، بل ذلك الماء غير المرئي الذي يرطب التربة ويغذي الجذور....

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply