حرة التجديد في القرن السادس الهجري \ وقفات... دروس وعظات\ (2/2)


  

بسم الله الرحمن الرحيم

تحدث الكاتب في الحلقة الماضية من دراسته تلك عن مظاهر الإحياء والتجديد التي قام بها قادة المسلمين في القرن السادس، وعلى رأسهم القائدان المظفران نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي - رحمة الله عليهما - وعرض الكاتب - وفقه الله - للخطوات العلمية والعملية التي على أيديهما وكانت سبباً في نهوض الأمة وارتقائها، وطردها للصليبيين من بيت المقدس بعد أن دنسوه زهاء تسعين سنة، وفي هذه الحلقة يستكمل الموضوع باستلهام الدروس والعبر من تلك التجربة، ودعوة المسلمين للاستفادة منها لرفع الذلة عنهم، وتحقيق النصر والعزة.

 

إن الشبه كبير بين واقع المسلمين المعاصر، وما كان يسود بلاد المسلمين خلال فترة الحروب الصليبية، من حيث الغزو الجماعي الصليبي الشرس، وتفرق المسلمين وضعفهم، وغياب هيمنة العقيدة على النفوس، مع سيطرة للتشيع في عدد من الأقطار وكذا الحركات الباطنية الهدامة.

وما دام أن قادة التجديد والجهاد، بعد منتصف القرن السادس الهجري، قد تمكنوا من طرد الغزاة ودحرهم، فلماذا لا نستفيد من تجربتهم، ونقرأ بتأن خطوات جهادهم وتجديدهم؟!

لقد كانت تجربتهم تجربة رائدة، ترتبط بالكتاب والسنة وتطبيق شريعة الله في الأمة.

وقد وحد الملكان العادلان: نور الدين وصلاح الدين - رحمهما الله - بلاد المسلمين، وحكّما الشريعة، وأقاما العدل، وحاربا المبتدعة، وقادا حملة للقضاء على الدولة العبيدية وعلى الباطنيين، وجاهدا الغزاة وطردوهم من بلاد المسلمين.

أعاد هذان الملكان للإسلام جدته، يساعدهما بطانة خيرة من العلماء الصالحين، فتكون جيل مجاهد وأمة متراصة، تلتف حول قادتها الأبرار المجاهدين فهلاّ فكر المسلمون من خلال هذا الواقع المرير، في قراءة تلك التجربة الرائدة؟! ثم حاولوا تطبيقها في حياتهم المعاصرة؟!

لقد جربوا كثيراً من الشعارات: القومية والاشتراكية والإقليمية، منذ مطلع القرن العشرين، فهلاّ جربوا هذه التجربة الناجحة، وهي امتداد لتطبيق السلف الصالح لمعالم هذا الدين الحنيف؟!

لقد كانت تجربة قادة الأمة المسلمة في العهدين النوري والصلاحي تجربة كبرى، مملوءة بالدروس والعظات، مما يتطلب منا أن نتأملها ونبحثها، ونراجع حساباتنا معها على ضوء المستجدات السياسية والحضارية والعسكريةº لنستفيد من أخطاء الماضي ونتجنبها، ونواجه أخطار الحاضر وتحدياته ونتغلب عليها بإذن الله.

وسوف نتلمس في هذا المقال خطوات التجديد والإصلاح التي نمت في تلك الفترة، مقارنة مع واقعنا المعاصر عسى أن تكشف الغمة عن أبناء هذه الأمة.

وذلك عن طريق:

1- إعداد الأمة عقدياً ونشر العلم الشرعي فيها.

2- التربية الجهادية بالضوابط الشرعية.

3- إقامة الوحدة الإسلامية (1).

 

أولاً: إعداد الأمة عقدياً:

العقيدة درع الأمة الحصين، وأساسها القوي المتين، ولا سبيل إلى الخلاص مما تعانيه أمتنا إلا إذا رجعت إلى هويتها الأصيلة، وثقافتها المنبثقة عن عقيدتها، ومهما حاولنا السير على منوال نور الدين وصلاح الدين، فلا سبيل إلى التحرير واسترداد بيت المقدس دون العزم على إعداد جيل التحرير، الذي يحمل عقيدة الأمة، ويجاهد لإعادة تاريخها الناصع.

وقد ازدادت مظاهر التردي العقدي المعاصر، فصار كثير من أبناء المسلمين يتبجحون بانحرافاتهم دون خوف أو وجل، منذ بداية القرن العشرين.

فتبنوا اليسار والشيوعية، أو العلمانية وسفاسف التغريب، باسم المذاهب الفكرية الجديدة، والإعجاب بكل فكر مستورد هجين.

نشروا آراءهم الشاذة باسم الحرية الشخصية، وتحت مظلة الدساتير الوضعية، التي تكفل لهم حرية التطاول على قيم الدين الحنيف.

فاعتبر بعض الكتاب والشعراء، أن الإسلام رجعية عتيقة ومرحلة تاريخية، أدت غرضها، فلا تصلح لحياتنا المتطورة!!

ويعتبر تحكيم القوانين الوضعية - في كثير من أقطار المسلمين - أبرز مظاهر التردي العقدي، وقد جاء ثمرة خبيثة للاستعمار الحديث، والغزو الفكري الذي صاحب ذلك الاستعمار، وما زال ينفث سمومه عن طريق عملائه الذين خلفهم في البلاد.

لقد عم البلاء \"وهاهي المحاكم في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب... فأي كفر فوق هذا الكفر؟! \" (2).

إن الدعوة إلى فصل الدين عن أمور الحياة شر فتك بمقومات أمتنا، وكان وراءها غزو فكري خبيث، يمثل هجمة صليبية صهيونية استعمارية في وقت واحدº مما جعلها تطبع معظم ديار المسلمين بالطابع الغربي التماساً لمحو الطابع المميز للشخصية الإسلامية (3).

ثم ظهرت فئة تدعو إلى تجديد الفكر الإسلامي، ومسخ أصول الشريعة (في الحديث والفقه)، بحجة مواجهة المستجدات العصرية، ومحاولة تغيير أصول العلوم الإسلامية عن طريق التشكيك بالسنة النبوية، وبعدم صلاحية الشريعة لمجاراة التطور، كل ذلك تحت ستار عصرنة الإسلام وتطويره (4).

هذا هو الواقع المؤسف، الذي يخطط له أعداؤنا، فقد جاء في صحيفة \"يديعوت أحرونوت\" الإسرائيلية القول: \"إننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن تنفيذ خطتنا، لمنع يقظة الروح الإسلامية بأي شكل... \" (5).

ولذلك فإن السلاح الوحيد الذي ينبغي أن يدخل معركة المصير، هو الإسلام عقيدة وتربية وجهاداً شرعياً صافياً، وفيما يلي نبذة عن أهم مقومات التربية العقدية.

 

مقومات التربية العقدية:

التربية هي الوسيلة التي تسلكها الأمة لتحافظ على تراثها وهويتها، حسب معتقدها وأهدافها في الحياة.

ويصعب علينا أن نستوعب مقومات التربية المنشودة في هذه العجالة... وسنكتفي بالإشارة إلى رأس الموضوعات الأساسية، والمراجع المتيسرة كذلك وأبرز هذه الموضوعات.

1-غرس عقيدة التوحيد: وهي البداية والأساس منذ نعومة الأظفار، وعبر فترات العمر كلها.. علينا أن نفهم أطفالنا حقيقة التوحيد، حقيقة لا إله إلا اللهº لأنها \"عندما تستقر في الأذهان، سوف تعمل على تحويل حياتنا كلها، لتستقيم على منهج الله في كل شيء\" (6).

فالمسلم إذا تمكنت عقيدة التوحيد من نفسه، لا بد أن يتبرأ من المشركين وما هم عليه.

وقد بدأ رسول الله {بغرس عقيدة التوحيد في نفوس أصحابه، وبتعميق معاني الإيمان لديهم، فاجتث بذلك رواسب الجاهلية كلها... وهيأ أصحابه لحمل الدعوة إلى العالم كله.

والإصرار على صفاء العقيدة، كان من أهم مقومات التربية المحمدية في دار الأرقم، وفي طيبة الطيبة، وما تزال هي الطريقة الوحيدة في كل تربية جادة، إذا أراد المسلمون أن يعودوا إلى مجدهم العريق، بعيداً عن العبث واللهو ومزجيات الفراغ.

على أن مفهوم التوحيد، لا يعني مجرد كلمة باللسان إذ لو كانت كلمة \"لا إله إلا الله\" مجرد كلمة لقالتها قريش في الجاهلية، إلا أنها كانت تعلم، أن لها مقتضيات وتكاليف، وما كان ينفعهم إيمانهم بأن الله واحد رازق محيي مميت... دون طاعة الله وتحكيم شريعته.

التوحيد إذا استقر في النفس، تحول إلى طاعة الله وتطبيق شرعه المنبثق من الكتاب والسنة النبوية.

وما أحوج الأمة إلى العودة الصادقة في تربية أجيالها على مفاهيم الإسلام وقيمه.

2- الحب في الله والبغض في الله:

وذلك من مقومات التربية الأساسية في الإسلام.. حتى تتلاحم الأخوة بين المسلمين على الكتاب والسنة، ومفهوم السلف لهما خلال القرون الثلاثة الأولى المفضلة.

فتصبح موالاة المشركين قضية خطيرة، بل تعتبر خيانة لله ولرسولهº لأن كره المشركين وماهم عليه، من علامات الإيمان، وحبهم وموالاتهم من علامات النفاق.

قال الله - تعالى -: \"لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم(22)\" {المجادلة: 22}.

وقال النبي {: \"أوثق عرى الإيمان، الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله\" (7).

إن محبة المؤمنين وموالاتهم من علامات الإيمان، وهذا ما ربي عليه رجال الدعوة الأولى، وهو ما تمثلته الأجيال المجاهدة، أيام نور الدين وصلاح الدين فتعاونوا وجاهدوا العدو، وكانوا يتعالون عليه، ويزدرون ماهو فيه من شرك وعقيدة تثليث.

وبصلابة هذه التربية العقدية، لن يعتقد المسلمون أن النصر آت من الشرق أو الغربº لأن ذلك مناف لكمال التوحيد، وهو شرك مقنّع، والفرج لا يكون إلا من عند الله - تعالى -.

وقد ابتلي كثير من المسلمين بهذا الداء، بعد أن تخلوا عن دينهم، وتحولوا إلى أناس أشبه بغثاء السيل.

إن التربية على مفهوم الولاء والبراء، هي التي تميز هوية الأمة، فتعرف الصديق من العدو على أساس من الكتاب والسنة.

ولا تعني هذه العقيدة، أن نناصب العداء لغير المسلمين، إنما تعني الوحدة والوئام بين المؤمنينº ليتمكنوا من رد العدوان عن ديارهم، وعدم الذوبان في أفكار ومعتقدات الأمم الضالة.

3- الاعتصام بالكتاب والسنة:

فهماً وحفظاً وتطبيقاً وهو الأساس في التربية المنشودة.. والتركيز على هذا المنهج فرض على المسلمين، يجب تنفيذه في المنزل والمدرسة، في المسجد والمنتديات الفكرية والأدبية. فالأسرة مسؤولة والمدرسة مسؤولة، والسلطات المسلحة مسؤولة أمام الله: \"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته\".

فالأسرة تولي أبناءها وبناتها منذ نعومة الأظفار التربية القويمة السليمة حسب هذين المصدرين (8).

أما سنوات الطفولة الثانية، وحتى نهاية سنوات الدراسة الابتدائية فعلى الأسرة أن تتعاون مع المدرسة على متابعة البنين والبنات دينياً وسلوكياً وعلمياً.

وهذه المرحلة من العمر، مع سابقتها (مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية) من أهم مراحل العمر التي تتكون فيها شخصية الطفل رجل المستقبل، فلا بد من الاهتمام الشديد بذلك (9).

أما فترة المراهقة، فهي مرحلة حساسة وغنية في معطياتها، تتميز بالطاقات الحية المتوثبة، فإذا وجهت نحو الخير وتحقيق مبادئ الإسلام، وحمل هموم المسلمين تحقق لدينا جيل قرآني صالح، وشباب أوّاب يسير على هدي من السنة، مقتدياً برجال من السلف الصالح ولا يرضى بهم بديلاً(10).

إن مهمة التربية مهمة شاقة، والقدوة الطيبة عند المربين مهمة، وإنها وظيفة الرسل الكرام، والدعاة المخلصين.

4- نشر العلم الشرعي:

وهو ضرورة شرعية ملحة عن طريق المدارس والمساجد والبيوتº لأن هذا العلم هو الذي يحفظ للأمة أجيالها، فيعتزون بتراثها الأصيل.

ولا بد من وضع المناهج الكفيلة بتحقيق هذه الغاية، والبعد عن كل ما يشوش على الناشئة تصورهم.. وإحباط المناهج العلمانية التي غزت معظم ديار المسلمين، والتي ورثناها عن المستعمرين ومخططاتهم الخبيثة لابد من ضبط المناهج، وربطها بدين الأمة وتاريخها في حاضرها ومستقبلها، حتى يتخرج جيل مؤمن، يعرف دينه، ويعتز بتراث أمته وتاريخها.

وهذا هو واقع جيل نور الدين وصلاح الدين، جيل مدارس القرآن، ودور الحديث الشريف، في ربوع دمشق والقاهرة، وسائر مدن الأمصار. <

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply