جهود العلماء والأدباء في استنقاذ القدس من الصليبيين


  

بسم الله الرحمن الرحيم

من يطلع على التاريخ يجد تشابهاً إلى حد كبير بين الفترات التاريخية، فالصراع بين الغرب النصراني والشرق المسلم بدأ من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسيستمر إلى نزول عيسى - عليه السلام -، كما نجد أن المسلمين إذا كانت قلوبهم متحدة قبل أبدانهم فإن عدوهم لا يجرؤ على التحرش بهمº لأنه يعرف عاقبة ذلك، وأما عند التفرق فإن العدو ينقض عليهم انتهازاً لهذه الفرصة التي قد لا تتكرر. وبعد هذا الإجمال نورد شيئاً من فوائد دراسة التاريخº ليكون ممهداً لهذه الدراسة.

فمن فوائد معرفة التاريخ:

1 - تثبيت قلوب المؤمنين، قال - تعالى -: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى\" للمؤمنين (120) {هود: 120}، قال الجنيد - رحمه الله -: \" الحكايات جند من جند الله - عز وجل - يقوي بها إيمان المريدين\"(1).

2 - أنها سبيل إلى معرفة سير أهل الصلاح والاقتداء بهم قال - تعالى -: أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى\" للعالمين 90 {الأنعام: 90}، قال أبو حنيفة - رحمه الله -: \" الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه لأنها آداب القوم\"(2). كما أنها سبيل لمعرفة سير أهل الضلال والخيانة لأمانتهم، ومن قدموا دنياهم على أخراهم، وكيف أنهم خسروا دنياهم بسوء العاقبة وسوء الذكر حتى إنهم لا يزالون يشتمون ما دامت مخازيهم مسطرة في كتب التاريخ.

3 - أنها سبيل إلى أخذ العبر والدروس من السابقين قال - تعالى -: \"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى\" ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون 111 {يوسف: 111}، وما أصدق الشاعر حين يقول:

اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر *** ضل قوم ليس يدرون الخبر

4 - معرفة السنن الكونية من سنن التمكين والنصر، ونهاية الظالم، ونصر المؤمنين الصادقين ولو بعد حين، كما قال - تعالى -: \"أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر 43 \"{القمر: 43}، وقال - سبحانه -: \"وكذلك ننجي المؤمنين 88\" {الأنبياء: 88}، وقال - جل وعلا -: \" وهل نجازي إلا الكفور 17 \"{سبأ: 17}.

قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: \"وقد قص الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - خبر ما مضى من خلق المخلوقات وذكر الأمم الماضين، وكيف فعل بأوليائه، وماذا حلَّ بأعدائه، وبين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بياناً شافياً\"(3).

ولما في القصص التاريخي من فوائد وعبر فإننا نجد أن الله - سبحانه - قص في كتابه كثيراً من القصص للأنبياء وغيرهم، قال - تعالى -: \"كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا 99 \"{طه: 99}. وقال - سبحانه -: \"ذلك من أنباء القرى\" نقصه عليك منها قائم وحصيد 100\" {هود: 100}. والقصص القرآني أحسن القصص كما قال - جل وعلا -: \"نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك \"هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين 3 \"{يوسف: 3}، وهذا يدل على أهمية القصص التاريخية المليئة بالدروس والعبر.

ومن أحلك الفترات، وأشد المصائب التي مرت على المسلمينº فأبكت العيون، وأثارت الشجون، وأثرت في النفوس مصيبة استيلاء النصارى على أولى القبلتين، وثالث المسجدين، فقد استغل الصليبيون فرصة وجود عوامل الهزيمة في المسلمين فانقضوا مدمرين من يقف أمامهم بوحشية لا توصف، ولشبه تلك الفترة بأحوال المسلمين في الوقت الحالي من تحالف بين الصليبيين واليهود، واحتلال للأراضي المقدسة أحببت أن أسلط الضوء على تلك الفترة الحالكة من تاريخنا، وكيف انقلب الظلام شيئاً فشيئاً إلى نور مشع بالنصر والتمكين، وكيف لم يأتِ ذلك النصر إلا بتعب وجهود مضنية من المصلحينº علَّنا ندرك ذلك فنتبع طريق الإصلاح الموصل إلى النصر.

 

أسباب استيلاء النصارى على أراضي المسلمين ومنها القدس:

استمرت الحروب الصليبية قرابة المائتي عام من (491 - 690)ه، وكان الذي تولى كبرها البابا أوربانس بعد أن قدم إليه رجل فرنسي اسمه (بولس السائح) وحكى ما يجري للحجاج النصارى من ذل في الأراضي المقدسة على يد المسلمين، فعُقِد مؤتمرٌ عظيم في فرنسا وانتهى بتصميم النصارى على الاستيلاء على الأراضي المقدسة. فبدؤوا حملتهم واستولوا على إنطاكية سنة 491ه وسقطت القدس سنة 492ه وقتلوا في ساحات الأقصى من العباد والعلماء وطلاب العلم نحواً من 70 ألفاً(4) إلى أن أعادها الله - تعالى - بعد وقعة حطين سنة 583ه. وقد ساعدت بعض العوامل الداخلية الصليبيين على النجاح في حملتهم تلك، فمن تلك العوامل:

1 - ضعف الخلافة واستقلال الأقاليم:

فقد وصل تمزق دولة الخلافة إلى أن تملك رقعة من الأرض في الأندلس مقدارها ثلاثون فرسخاً أربعة كلهم يتسمى أمير المؤمنين(5). وما أصدق قول الشاعر:

مما يزهدني في أرض أندلس *** ألقاب معتضد فيها ومعتمد

ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

وفي المشرق لم يكن للخليفة إلا قصره فقط، وليس له من الأمر شيء، وتحكم الخدم في العزل والتعيين كما قال الشاعر:

ومليك في قفص ***بين وصيف وبغا(6)

يقول ما قالا له ***كما تقول الببغاء

فنجد البويهيين في إيران، والفاطميين - العبيديين - في مصر، والحمدانيين في الجزيرة، وأكثر المدن لها شبه استقلال، وهذه الدويلات المتنازعة لا تملك مقومات الدول، وصدق الشاعر في قوله:

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا ***وإذا افترقن تكسرت آحادا

2 - التنازع على الحكم، وتولي من ليس بأهل لها، وكثرة الانقلابات ومنازعة الحكام والخروج عليهم:

فحكامهم كما يقول المعري:

يسوسون الأنام بغير لب ***فينفذ أمرهم ويقال ساسة

ومن عجيب ما ذكر في ذلك: أن أمية بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر قام وتسور القصر، ودعا إلى نفسه، فقال له بعض أهل قرطبة: (نخشى عليك أن تقتل في هذه الفتنةº فإن السعادة قد ولت عنكم، فقال: (بايعوني اليوم واقتلوني غداً)(7). وبهذه النفسية لدى العوائل الحاكمة يضحي أحدهم بكل شيءº لينال الإمارة، فيضحي بدينه، ويتحالف مع الأعداء النصارى ضد المسلمين، وقد يقتل أخاه، وقد يفعل أشياء لا تخطر بالبال لأجل الكرسي.

3 - الفساد الاقتصادي والفجوة الكبيرة بين الفقراء والأغنياء:

فبينما نجد ولائم كبار الدولة ووزرائها فيها من البذخ الشيء الكثير(8)º نجد أن الفقر مستشرٍ, فيها(9) حتى إن القاضي عبد الوهاب المالكي غادر بغداد من الفقر، وقال لمودعيه: لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة وعشية ما عدلت ببلدكم أمنية، وفي ذلك يقول:

بغداد دار لأهل المال طيبة ***وللمفاليس دار الضنك والضيق

 

ظللت حيران أمشي في أزقتها *** كأنني مصحف في بيت زنديق(10)

وقال:

سلام على بغداد في كل موطن ***وحق لها مني سلام مضاعف

فوالله ما فارقتها عن قلى لها ***وإني بشطي جانبيها لعارف

ولكنها ضاقت علي بأسرها ***ولم تكن الأرزاق فيها تساعف(11)

4 - بعد الفقهاء عن السياسة، وقد قال شيخ الإسلام:

\"وبسبب ضعف الفقهاء من العلم الكافي للسياسة العادلة وقع انفصام في المجتمع الإسلامي فصار يقال: الشرع والسياسة، هذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعوه إلى السياسة، والسبب تقصير هؤلاء في معرفة السنة\"(12).

ورأى أحد الشعراء بعض أهل العلم في مكة يتباحثون في النحو والصرف فوبخهم بقوله:

أما تستحون الله يا معدن النحو ***شغلهم بذا والناس في أعظم الشغل

إمامكم أضحى قتيلاً مجندلاً ***وقد أصبح الإسلام مفترق الشمل

وأنتم على الأشعار والنحو عُكَّفاً ***تصيحون بالأصوات في أحسن السبل(13)

5 - الباطنية ونخرهم في الجسد الإسلامي:

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply