مصادر التاريخ الإسلامي ونقد الروايات


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

التعريف بالتأريخ والمعنى الأوليّ له:

يقوم موضوع التاريخ على الإنسان والزمان بمسائل قوامها أحوالهما المفصلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال العارضة الموجودة للإنسان وفي الزمان.

وبمعنى آخر، هو دراسة العناصر الحركية في المجتمع. ومن هذه التعريفات في المراجع التاريخية الحديثة، وهي مستقاة مما أشار إليه القدماء، فإن كتب السيرة والمغازي والأنساب تدخل في عداد الكتب التاريخية. 

وفكرة الوقت وتحديده هي المعنى الأوّلي للتاريخ، وقد أرّخ (أو ورّخ) المسلمون- على اختلاف في اللغة المُضرية(1)- في خلافة عمر -رضي الله عنه- وورد أن أصل التاريخ الإسلامي مأخوذ من العربية الجنوبية، وأنَّ يعلى بن أُميّة الحنظلي، عامل عمر على اليمن، كتب إليه كتاباً مؤرخًا. ومع وجود آراء أخرى بخلاف هذا فقد أُيد هذا القول بكون أولئك القوم ذوي اهتمام بأمر التوقيت لعامل الاشتهار بالزراعة وعامل الشعائر الدينية، وأيضًا عامل التجارة في البر والبحر(2). 

وإذا كان تدوين الدواوين ووضع الأخرجة وسن القوانين احتاج إلى تأريخ في الإسلام، فإن كلمة تأريخ تطورت من التقويم والتوقيت إلى تسجيل الحوادث على أساس الزمن، ثم حلت محل الخبر بعد أن كان يقوم مقامها بمعنى العملية التاريخية، وصارت تطلق على عملية التدوين التاريخي وحفظ الأخبار، فالعلم بحوادث التاريخ وأخبار الرجال والكتب التي تبحث في ذلك. وورد في النقوش الجنوبية"ورّخ" وجمعها "أورخم" بمعنى "الشهر القمري". وبظهور الكتب التاريخية، وأقدمها تلك الكتب التي تتعرض لسنوات الميلاد والوفاة لبعض الشخصيات، أصبح التاريخ فناً يُبحث فيه عن وقائع الزمن من حيثية التعيين والتوقيت.

 

كيف كان يؤرخ العرب:

وكانت حمير وكهلان تؤرخ بالتبابعة وسيل العرم وظهور الحبشة وإزالتها وغلبة الفرس. وتؤرخ العدنانية بهلاك جُرهم بالحرم وبتفرق ولد نزار، وبمأقط(3)، وبحجة الغدر بين يربوع بن حنظلة واليمن قبل الإسلام بـ 150 عاماً، وبأيام البسوس(4)، وجبلة، والكُلاب(5). 

والكُلاب بين أبناء آكل المرار بعضهم البعض والكُلاب الثاني بين تميم واليمن. 

وباستعمال كتب الحوليات لكلمة "تأريخ" تطور معناه إلى ما سلف الإبانة عنه. ومن هذه الكتب تأريخ الأمم والملوك للطبري، وتأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء لحمزة الأصبهاني. 

أما البداية التدوينية فقد اهتمت بالسيرة النبوية في موضوعاتها وبالمغازي ونسب قريش وتراجم رجال الفقه والحديث. فارتباط التاريخ الوثيق بالعلوم الدينية تفصح عنة تلك الاهتمامات الأولى. وكان من رأي كثير من علماء المسلمين أن العناية بالتأريخ ضرورة لخدمة العلوم الدينية. وعُرفت الدراسات المتقدمة لحياة الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، بـ "المغازي" وتعني لغويًا دراسة أعماله الحربية.

 

وبهذا الإلماح الموجز مما ورد في البحوث العلمية عن التاريخ وأنه تحقيق عبرة تختزل لنا التجربة، وميدان تطبيق القيم على الواقع، وما يتطلبه من قدرة على الفهم والتحليل والتعليل والموازنة والمقارنةº فإن هذا الوعاء للفعل الحضاري، أحد موارد التكوين الثقافي، قد نظر فيه أهل الاختصاص قديما على أنه موطن الاستقراء والاستنتاج ومعرفة سنن السقوط والنهوض والتعرف على القوانين التي تنظم الحركة التاريخية للإفادة من التجارب. فعند السَّخاوي في كتابه الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ أنه غزير النفع كثير الفائدة بحيث يكون من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرب الأمور بأسرها وباشر تلك الأحوال بنفسه، وأن حوادث التاريخ عبرة وموعظة ودرس وتجربة توقف الدارس على عثرات الماضين وأسباب انقراض الدول والحضارات وتدفع أصحاب المثل إلى الإقتداء بالشخصيات. والتاريخ لسان يخبر به الزمان عن عجائب الوقائع، بل أستاذ يقرر الحوادث ليعيها السامع.

 

ابن خلدون ورؤيته النقدية للتاريخ:

اقترن حديث ابن خلدون عن علم التاريخ برؤية نقدية لمغالط وأخطاء المؤرخين بعد أن ذكر فن التاريخ، وفضائله، وتحقيق مذاهبه وأنه عزيز المذاهب، وجم الفوائد، وشريف الغاية. على إن تعميمه في اقتصار المؤرخين على سرد أسماء الملوك، ووصف المعارك، وإهمال الأحوال الاجتماعية الفاعلة في سير التاريخ ليس على إطلاقه إذ أن جمهرة من المؤرخين كتبوا في جوانب الحياة الدينية والثقافية، والاقتصادية، والاجتماعية، وهذا ما يعد توجها حضاريا لم يقف عند حد السياسة والحروب، ومعرفة تاريخية في ممارسة التدوين. 

وفي منهج ابن خلدون أن من الأخطاء والمآخذ أن أئمة النقل لم يعرضوا الحكايات والوقائع على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم البصر والبصيرة. وضرب مثلا في البعد عن الواقعية في سرد الحقائق التاريخية والإغراب في الخيال إلى حد تزييف الخبر وتشويهه بما يذكر في أخبار التبابعة وخروجهم من قراهم باليمن إلى بلاد المغرب وأن أفريقيش من أعاظم ملوكهم الأُوَل في عهد موسى، على حد قول المؤرخين، وأنه غزا أفريقيّة، وبه سمّيت. وأنه أثخن في البربر، وأنه هو الذي سماهم بهذا الاسم وأبقى جماعة من حمير تنتمي إليها صنهاجة(6). 

وعرض ابن خلدون للطبري وسيف بن عمر والواقدي والمسعودي، وانتقد الواقدي والمسعودي، وساق شواهد تاريخية من أخبار المسعودي ظهر فيها الاعتماد على النقل دون تحكيم العقل، كبناء الإسكندرية، وكخبر تمثال الزرازير في روما، ورّد ما ذكره المسعودي عن عدد جيش بني إسرائيل وكثرته مستشهداً بما ذكره سيف عن جيش الفرس في القادسية وان بني إسرائيل لم يصلوا في يوم من الأيام إلى حجم دولة فارس التي حشدت أكبر قوة لها في تلك المعركة، ولم يصل عدد جيشها إلى نصف ما ذكره المسعودي عن جيش بني إسرائيل. 

والتاريخ عند ابن خلدون علم من علوم الفلسفة موضوعه الاجتماع الإنساني فهو يقتضي تعليل الحوادث وربط بعضها ببعض مع تمييز الخبر الصادق من الخبر الكاذب مع الترجيح بين الأسباب. وهو يصف التطور في البيئة الاجتماعية بكل ما فيها من سياسة وحرب وصناعة وتجارة وعلم وفن وحركات اجتماعية عامة أو دينية أو اقتصادية أو فكرية. ويتساوى في فهمه العلماء والجهال من حيث ظاهره، لكنه في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق. 

والكذب متطرق للخبر بطبيعته بسبب التشيعات للآراء والمذاهب، وإذا كانت النفس على حالة من الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيع لرأى أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة. وكثير من الناس يقبلون الأخبار المستحيلة ولم ينقدوها بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع فإذا كان الخبر في نفسه مستحيلا فلا فائدة للنظر في الجرح والتعديل. 

وكثيرون من سامعي أخبار الماضين لا يفطنون لما وقع من تغير الأحوال وانقلابها، وأنها لا تدوم على وتيرة واحدة، فيجرونها على أول وهلة على ما عرفوا ويقيسونها بما شهدوا وهذا من الجهل بالقوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية- كما سلف- وعدم مراعاة البيئة الزمنية والتطور في الأشخاص والأوقات والأمصار(7).

 

المصادر والمراجع:

والمصادر التاريخية هي المصنفات القديمة في هذا المجال، أما الكتب الحديثة فهي مراجع. وهناك من يرى أن كلا النوعين مراجع، وأن المصادر هي الوثائق الرسمية والأوراق البردية والوقفية والنقوش والآثار المعمارية. ويرى الدكتور السيد عبد العزيز سالم أن المصادر إما مصادر أثرية كالمتقدمة الإشارة إليها.

 

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply