ماذا وراء الهجوم على التاريخ الإسلامي ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كان تحطيم التاريخ الإسلامي، والعبث به هدفاً من أهداف المدرسة العصرانية (*)، ولم تقف عملية التزوير عــند عصــر دون عصــر، ولا عهد دون عهد، بل شملت كافة عصور الإسلام بلا استثناء (1).

فحروب الردة لم تكن ـ برأي أحد الباحثين منهم ـ حروباً دينية، ولا الحرب مع خصومه كانت حرباً دينيةº لأنها كانت حرباً في سبيل الخلافة والرئاسة، وهذه سلطة ذات طبيعة سياسية ومدنية، ومن ثم كانت الحرب التي نشبت لأجلها سياسية ومدنية هي الأخرى».

* ويزعم حسين أحمد أمين أن ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حذف من القرآن (500 آية) تطعن في بني أمية وتذم أبا سفيان، ويرى أن معركة بدر كانت ناتجة عن حسابات للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المهاجرين، يريدون تصفيتها مع قريش التي طردتهم من ديارهم(2).

* وكان الهجوم على الفتوحات الإسلامية هدفاً من أهداف المستشرقين والمبشرين الحاقدين من كل ملة، وأصبح الجهاد في سبيل الله مجالاً للتشكيك والتزوير، وقد شهد الأعداء قبل الأصدقاء بعدل المسلمين الفاتحين «فما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب». إلا أن العلمانيين والعصرانيين، دأبوا على متابعة سادتهم من أعداء المسلمين في تشويه تاريخنا، وحاولوا تحطيم أبرز وأعظم الصفحات المضيئة في تاريخنا الزاهر.

* فالدكتور عبد المنعم ماجد: يعجب من توهم بعض المستشرقين الذين يرون أن العرب المسلمين فتحوا البلدان بدافع إسلامي، يقول: «لا نوافق بعض المستشرقين في قولهم إن العرب كانوا مدفوعين نحو الفتوح بحماس دينيº فمن غير المعقول أن يخرج البدوي - وهو الذي لا يهتم بالدين ـ لينشر الإسلام»(3).

* ويعتبر حسين أحمد أمين أن الفتوحات الإسلامية هي نوع من الاستعمار، كالاستعمار الغربي لبلاد المسلمين(4).

* والدكتور محمد جابر الأنصاري: يحرص على تجريد العثمانيين من كل فضيلة، حتى غدوا في نظره «جماعة من الهمج المتوحشين الذين دمروا الحضارة العربية الزاهية»(5).

* فهل يعتبر هذا الهجوم على العثمانيين جزاء إيقافهم للزحف الأوروبي الصليبي على ديار العرب عدة قرون؟ وهل هذه هي مكافأة للجيش الذي فتح القسطنطينة؟! حتى السلطان صلاح الدين الأيوبي يصفونه بأنه «القائد الإقطاعي البارز».

* وكان على رأس هؤلاء المشككين(6). الدكتور الطبيب خالص جلبي في كتبه ومقالاته، وقد تحمل وزر الهجوم الحاقد على تاريخ بني أمية، وتشويه حركة الفتح في أيامهم، كما أنه ما فتئ يهاجم السلطان محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينة، ليسلم له توجهه نحو فكرة موهومة، فكرة السلم المزعوم واللاعنف الخيالي، حتى وقع في خندق أعدائنا تشويهاً وتزويراً لتاريخنا.

* وخلال هجومه على الفتوحات زمن بني أمية يقول: «إن العالم العربي ما زال يحكم بسيف معاوية بعد انطفاء الوهج الراشدي، والثقافة العربية تستحم بالعنف منذ المصادرة الأموية وتوديع حياة الرشد، واعتناق حياة الغي، وتفشي روح الغدر والتآمر والقتلº فليس بعد الرشد إلا الغي». ثم يقول: «عندما يقلب معاوية الوضع الراشدي لبناء دولة بيزنطية، ومسح الخلافة الراشدة بالتآمر الأموي، كان سيتم الأمر ولا راد لقضاء الله»(7).

أيقال هذا عن دولة خير القرون بعد الخلافة الراشدة؟!

 

* ولا يتورع عن مهاجمة الصحابة - رضي الله عنهم - بقولـه: «وشخصيات هامشية في الثورة الإسلامية الأولى، من طراز عمرو بن العاص ومعاوية، حرفت مسيرة الخلافة الراشدة (180 درجة)(8)، ثم يقول: (باسم القرآن حبكت أعظم خديعة في تاريخ السياسية، فرفع على رؤوس الرماح في حق يراد به باطل، لينشئ ملكاً عضوداً» - جريدة الشرق الأوسط -.

* ونتساءل الآن: لمصلحة من يأتي هذا الهجوم على بني أمية وعلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! ألا يلتقي هذا الهجوم مع حملات الرافضة وتشويه اليهود والصليبيين لتاريخنا؟! ألا يذكر أن عهد بني أمية كان ضمن القرون الثلاثة الأولى المفضلة بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -º إذ يقول: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»(9).

* والتجريح لهؤلاء الصحافة (معاوية وعمرو بن العاص) ومن حضر صفين، لم يتجرأ عليه إلا الرافضة وغلاة المعتزلة، مخالفين الأحاديث الصحيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال - عليه الصلاة والسلام -: «من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»(10)، وقد ثبت في صحيح مسلم (ج 4/945) أن معاوية  - رضي الله عنه - كان أحد كُتَّاب الوحي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

* وقال أبو زرعة الرازي: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق)(11).

* وأختم هذا الموضوع بحديث السيد محب الدين الخطيب حول الفتوحات زمن بني أميةº إذ يقول: «ودخلت معظم الشعوب في هداية الإسلام على أيدي الخلفاء الأمويين وولاتهم وقادة جيوشهم.. ولا شك أن الأجيال المسلمة إلى يومنا هذا منهم من يسعد بذلك ويمتلئ قلبه سروراً... ومنهم من امتلأ فؤاده حقداً على الفاتحين، وجعل من دأبه أن يصمهم بكل نقيصة. وانتشرت الفتوحات حتى نودي بكلمة: الله أكبر حي على الفلاح، على جبال السند، وفي ربوع الهند، وفي أودية أوروبا وجبالها.. كل هذا في زمن بني أمية، الذي لو صدر عن اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان عُشرُ ما صدر عنها من الخير، ومن إنصاف ومروءة وكرم وشجاعة.. لرفعوا لأولئك اليهود والنصارى الثناء والتقدير في الخافقين». «والتاريخ الصادق يريد لكل متحدث عن رجاله، أن يذكر لهم حسناتهم على قدرها، وأن يتقي الله في ذكر سيئاتهم فلا يبالغ فها»(12).

* ولا ينسى الدكتور الطبيب خالص جلبي أن يهاجم فتوحات بني أمية في الأندلس، وتوغلهم في بلاد النصارى، فيقول بـ (أن الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر) كان قد خرب ودمر، ثم رجع محملاً بالسبي والغنائم. هذا الذي حصل من اغتيال العقل الإسلامي منذ الانقلاب الأموي عندما ذهب الأمويون بسذاجة أعرابي جاء متأخراً عن درس التاريخ بحوالي سبعة آلاف سنة، حتى انتقلت روح الإسلام إلى الغرب، فألغت بريطانيا الرق رسمياً عام (1933م)(13).

* ويذكر المؤرخون الثقات أن الخليفة الناصر، كان كثير الجهاد بنفسه، ويغزو دار الحرب الصليبي، وكانت له في جهاد العدو اليد البيضاء(14)º وذلك خلال خمسين عاماً من خلافته.

* وقد سار ولاة بني أمية على طريق الخلفاء في غزو النصارى كالمنصور بن أبي عامر (366 هـ - 399هـ)، خلال فترة حكم (هشام الثاني)º إذ غزا سبعاً وخمسين غزوة دوخ خلالها النصارى المتربصين، وأعاد للمسلمين مكانتهم وهيبتهم(15).

* لقد كانت حركة الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس حلقة في سلسلة جهاد المسلمين أيام بني أميةº فلم تكن حركة غزو وغنائم، أو سيطرة سياسية، بل هو موكب دعوة إصلاحية، تدعو إلى الله على هدى وبصيرة، منهجها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ميدانها الأرض كلها، أما موضوعها فهم البشر جميعاً(16). هذا هو واقع المسلمين في الأندلس، وخلال فتوحاتهم المشروعة، كما جاءت في المصادر الموثوقة، أما ما يعتمده الطبيب جلبي، فهو نزوات مريضة، وأهواء شعوبية جديدة وحاقدة.

* مهاجمة الفتوحات العثمانية:

دأب الدكتور خالص جلبي على مهاجمة الفتوحات الإسلامية كلها ابتداء بفتوحات بني أمية، وانتهاء بانتصارات السلاجقة والعثمانيين على قوات الصليبيين، في آسيا الوسطى، وشرقي القارة الأوروبية. يقول: (كانت الإمبراطورية العثمانية من حجم مرعب، اجتاح المربع الشرقي من قارة أوروبا، وجلس لمدة خمسة قرون في البلقان، مما يفسر الحقد التاريخي للصرب ضد الوجود الإسلامي الحالي..)(17).

* ويكفي العثمانيين ـ في ميزان الله ـ أنهم توغلوا في أوروبا الصليبية، وفتحوا للإسلام ما فتحوا من أراض وقلوب، فدخل الناس في الإسلام بعشرات الملايين، ويكفيهم أنهم حموا العالم الإسلامي من غارات الصليبيين خمسة قرون متوالية، ومنعوا قيام الدولة اليهودية على أرض الإسلام، ولم يتمكن شذاذ الآفاق من التجمع لإقامة دولتهم إلا بعد أن زالت دولة الخلافـة من الوجود(18).

* وسوف نتحدث عن واقعتين انتصر فيهما المسلمون هما: معركة ملا ذكرد، وفتح القسطنطينية، وكيف حاول «جلبي\"تشويه الانتصارات العظيمة التي قادها سلاطين مجاهدون عظماء. فمعركة ملا ذكرد التي انتصر فيها السلطان السلجوقي «ألب أرسلان\"على الروم بقيادة ملكهم «أرمانوس الرابع» تحدث خالص جلبي عن هذه المعركة بنفسية المستشرقين فقال: (ولم ينتبه مؤرخونا إلى هذه الواقعة وآثارها البعيدة، فيعجب المرء وهو يقرأ السرد التاريخي الأسطوري، والذهول عن معركة مشؤومة للشرق الأوسط بكل المقاييسº فهي التي عجلت بانهيار بيزنطة، وهي التي فجرت الحروب الصليبية»(19).

* فانظر إلى هذا التزوير العجيب لحقائق تلك الموقعة «فملك الروم هو الذي هاجم بلاد المسلمين، (حلب وما حولها) وانتصر على أمرائها، ثم توجه بجيش كبير جداً من الأوروبيين الذين وفدوا على بيزنطة، وكانوا يحملون الصليب رمزاً لحربهم المقدسة! ولتعاونهم مع بني جلدتهم البيزنطيين»(20).

* لقد كان السلطان «ألب أرسلان\"من خيار الملوك، محباً للعدل، فيه رحمة وشفقة. وكان ملك الروم «أرمانوس\"قد استاء من قوة السلاجقة وتوسعهم، فقرر مهاجمة البلاد الإسلامية، فهاجم مدينة حلب وما حولها، وانتصر على أمرائها، ثم توجه شرقاً بجيش كبير حشد فيه الآلاف من الروس والفرنسيين والبلغار واليونان، وعسكر في أقصى شرق الأناضول، وكان مع ألب أرسلان جيش صغير ولم يتوقع أنه سيلتقي مع الروم في هذا الحشد الكبير. حاول ألب أرسلان أن يعقد صلحاً مع (أرمانوس)، ولكن أرمانوس كان مغروراً بجيشه الضخم، فرفض كل عروض الصلح، وقال لرسول السلطان: (لن يتم الصلح إلا في الري) عاصمة السلاجقة.

* ولذلك أعلن (أرسلان) بين جنوده أن الإسلام في خطر، ودعاهم إلى الاستماتة في القتال، ونصحه الفقيه (محمد بن عبد الملك البخاري) البدء بالقتال وقت صلاة الجمعةº فلعل دعوات المسلمين في صلاتهم أن تصيبه. وقد أعد السلطان نفسه للموت، ونزل عن فرسه وعفَّر وجهه بالتراب، ودعا الله - سبحانه و تعالى -، ثم حمل مع جنوده على الروم، وما هي إلا ساعات حتى منح الله النصر للمسلمين، فأُسر ملك الروم، ثم افتدى نفسه، وتم الصلح بين السلطان وملك الروم، على أن يتوقف القتال خمسين عاماً، وأن يرد الروم كل أسرى المسلمين. وعند عودة أرمانوس إلى بلاده، أعطاه السلطان عشرة آلاف دينار لنفقة الطريقº فهذه هي أخلاق المسلمين في السلم والحرب، ولم تكن المعركة مشؤومة على المسلمين كما يصفها كاتب مشؤوم على بلاده وأمته. وتعتبر هذه المعركة نقطة تحول في التاريخ الإسلاميº فهي التي يسرت القضاء على نفوذ الروم في معظم أرجاء الأناضول مما مهد الطريق بعد ذلك لفتح القسطنطينية(21).

* لقد تناول الطبيب (خالص جلبي) الصفحات المشرقة في تاريخنا، وراح يلطخها بالسواد ويشحنها بالتشكيك والتزوير، متجاوزاً كل حقائق التاريخ، لاهثاً وراء فكرة خيالية ليس لها في الواقع نصيب: فكرة اللاعنف، والسلم الذليل، مما أوقعه في هذا المنزلق الخطير والتناقض العجيب، ليقف مع أعداء أمتنا في خندق واحد.

* فتح القسطنطينية:

كان فتح القسطنطينية عام 1453م تاج الفتوحات الإسلامية، وإحدى البشائر النبوية لذلك الفتح العظيم، وللقائد الفاتح.

إلا أن أصاحب اللاعنف الموهوم، ودعاة التعطيل للجهاد المشروع، راحوا يشككون بهذا الفتح المبارك ودوافعه، فقال الطبيب خالص جلبي في مقال له بعنوان: (لا إكراه في السياسة): يفرح المسلمون بسقوط القسطنطينية، ولكن هناك من يذكرها مع الدموعº فهل كان فتحها إسلامياً؟!

والمشكلة أنه لا يخطر في بالنا أن تاريخنا قد يكون في بعض صفحاته مربادّاً أسود كالكوز مجخيّاً! ثم يقول: «فالسلطان محمد الفاتح، وفتح المدينة يذكِّر بشارون وهو يريد احتلال القدس، وطرد أهلها منها، وبغضِّ النظر عن فظاعات الفتح وحجم النهب والسلب والاغتصاب على يد الانكشاريةº فإن أول ما فعله (محمد الفاتح) أن وضع يده على أقدس مقدساتهم أيا صوفيا، تلك التحفة التاريخية، ليحولها إلى مسجد. لم يكن هذا الفتح انتشاراً على منهج النبوة، بل اجتياحاً عسكرياً.. ونسميه إسلامياً؟!!».

ثم يقول: «ولا تقف مشكلة الإكراه على صورة الفتح الفجة البدائية، بل آثارها المدمرة، حيث انطلق تنين أوروبي برتغالي وإسباني كرد فعل على حروب لا نهاية لها، في هذه الحافة المشؤومة..\"ويتابع قوله: «فليس لدينا قدرة على مراجعة تاريخنا، ولا نعتبر مثلاً أن معركة (صفين) كانت كارثة توقف فيها المد الإسلامي الصحيح، وظهرت على السطح نسخة إسلامية مزورة، صادرت الحياة الراشدية، وتدثر الخليفة مرتاحاً بين الغلمان والحريم بعباءة كروية، وتحولت دولة العدل إلى امبراطورية بيزنطية، تجتاح الممالك بالسيف»(22).

هذه مقتطفات من مقال طويل مملوء بكلام سقيم ولغو ثقيل، يهاجم حقائق التاريخ، ويحزن على مآل الفتح، ويسرٌّ لِمَا يصيب المسلمين. يقول الدكتور عدنان رضا النحوي(23): «ومن الغريب أن الدكتور خالص يحزن لما يفرح به المسلمون أمثال هذه الفتوحات العظيمة، ولا يحزن للمجازر التي يقوم بها الأعداء ضد المسلمين قديماً وحديثاً» ويقول: «على الدكتور خالص جلبي أن يتقي الله، وأن يدرس التاريخ الإسلامي بميزان العدل بعيداً عن التزوير المتعمد، لا بميزان اليهود والنصارى.. وعليه أن يدرس سيرة السلطان محمد الفاتح بعناية.. وقد كان الفتح بشرى لأهل المدينة، ونجاة مما كانوا فيه من فتنة وظلم وضلال».

ويتابع الدكتور النحوي: «وقد استبشر أهل المدينة بعدل الفاتح، حتى قام أحد وزراء النصارى «توتاراس\"ينادي في شوارع إسلامبول قائلاً: «أود من سويداء قلبي أن أشاهد هنا تاج السلطان محمد الفاتح، من أن أرى فيها إكليل «بابا» أو «قلنسوة كاردينال». ثم يقول الدكتور النحوي: «ولقد ذهب الكاتب بعيداً وأساء كل الإساءة، وخالف العلم وحقائق التاريخ، حين هبط فشبه محمد الفاتح حيناً بستالين، وحيناً بشارون! عجباً كل العجب! حتى لو وسوس له الشيطان بهذا الخطأ، لكان هناك ألف سبب لمنعه من إطلاق هذه الأقوال، وما كان لرجل يأخذ حقائق تاريخه من ظنون أعدائه، ويدع الحديث الشريف وتاريخ الصحابة، وحسبك أبو أيوب الأنصاري. «وعلى كل حال سيظل هذا الفتح شرفاً للسلطان الفاتح، الذي منَّ الله عليه بتحقيق بشرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي يرويــه (بشـر بن ســحيم  - رضي الله عنه - في التاريخ الكبير للبخاري وفي المستدرك للحاكم، وفي المسند للإمام أحمد: (لتفتحن القسطنطينيةº فلنِعمَ الأمير أميرها، ولنِعمَ الجيش جيشها)».

ولذلك تسابق الخلفاء المسلمون إلى فتحها لينالوا تحقيق بشرى مشرقة في التاريخ الإسلامي.

إن تاريخ المسلمين لا يُفهم بأسلوب يحمل الغيظ لكل خير يصيب المسلمين، والغيظ لكل أسى يصيب غيرهم.. فالجريمة عند جلبي أن يكون للمسلمين قوة، ليتبرأ من العنف لدى المسلمين، وليته يوجه كلامه للأمريكان والروس وكذا للأوروبيين.

«لقد كانت الفتوحات الإسلامية عملاً فريداً في تاريخ البشرية كله، كانت فتوحاً تحمل رسالة الله إلى خلقه وعباده ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ثم يقول: «مهلاً أيها الكاتب! ليتك توجه كلامك عن العنف إلى الطرف الآخر الذي يملأ الأرض مجازر ودماً دفاقاً، وأيتاماً وثكالى، ليتك توجه كلامك إليهم وتدرس تاريخهم وتنقده، ودعك من التاريخ الإسلاميº فميزانك في دراسته جائرة غير عادلة.. ليتك تطلب من كبار المعتدين أن يوقفوا أسلحة الدمار الشامل التي يملكونها.. «انتهى الاقتباس من مقال الدكتور عدنان رضا النحوي.

وها هي أمريكا وإسرائيل وما تشيعانه من دمار وقتل وخراب، وعلى أرض الرافدين والبلاد المقدسة في فلسطين فيسكت عنها!!

وعموماً فإن الذين يتظاهرون بالظَّرَف والوداعة، وينادون بالسلم الموهوم، يتغافلون عن أيدي الأعداء وقد لطخت بدماء إخوانهم وأخواتهم من أبناء المسلمين في فلسطين والبوسنة والشيشان وكشمير وفي كل مكان.. والذين يسعون ـ بعد كل ذلك ـ إلى قتل روح الجهاد بتأصيل تربية ذليلة خائفة تستسلم للعدو، وتدعو إلى الاستسلام تحت حجج واهية بعيدة عن روح الإسلام وطبيعته وتاريخهº فهؤلاء باتت مواقفهم مريبة مفضوحة!!(24).

ومحمد الفاتح: قائد مسلم لبى الدعوة إلى الله، وبلَّغها للناس كافة مجاهداً فاتحاً يرحمه الله. وقد كان الفاتح من الملوك الذين يهتمون بالعلم، فأنشأ المدارس الكثيرة، وعرف بحبه للعلماء واستقدامهم من البلاد البعيدة، كما كان يشاور العلماء ويحترمهم، قال بعد الفتح: «إنكم ترونني فرحاً، فرحي ليس لفتح هذه القلعة، بل تتمثل فرحتي بوجود شيخ عزيز الجانب في عهدي، هو مؤدبي «الشيخ محمد شمس الدين».

وكان والده السلطان مراد: قد عهد إلى علماء الحديث والفقه في زمنه بتعليم ولده (محمد الفاتح) القرآن والحديث والفقه، كما أنه تعلم التاريخ والرياضيات والعلوم العسكرية، وأتقن عدة لغات غير التركية.

وكان أحد مشايخه (الشيخ محمد بن حمزة) يذكِّره بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فتح القسطنطينية، ويرجو له أن يكون فاتحها، هذه المدينة التي حاول خلفاء المسلمين فتحها، لأهميتها وموقعها الممتاز، وبشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم -º فقد حاول المسلمون فتحها في عهد معاوية رضي الله عنه، وفي عهد سليمان بن عبد الملك، وأيام الرشيد، رحمهم الله جميعاً(25).

ورغم كل ما تقدم من أهمية هذا الفتحº فإن للعصرانيين والعلمانيين رأي آخر حول هذا الفتح المبين. ومن عادتهم وعلى رأسهم ـ خالص جلبي ـ أن لا يترك فرصة سارة للمسلمين إلا ويحاول طمسها وتشويهها، ولا قائداً عظيماً إلا ويحاول التعريض به. انظر إلى قوله في صلاح الدين الأيوبي: (كل حكام العالم العربي تقريباً جاؤوا عن طريق بوابة الانقلابات العسكرية وفرض الآراء بالقوة المسلحة. وكذلك الاتحاد السوفييتي والنازيون والفاشيون والأمويون والعباسيونº وحتى صلاح الدين الأيوبيº فقد أخذوا السلطة بالقوة المسلحة والغلبة)(26).

وبعد كل هذا فأصدق كلمة تقال في هؤلاء المشككين، ما قاله القدماء: (ولا أخس ممن يتتبع القبيح ليستخرجه بين ظهراني الحسن).

وفي الفقرة القادمة سنتحدث عن طبيعة الفتوحات الإسلامية، بعيداً عن أحقاد الشعوبيين الجدد والعلمانيين الحاقدين، وبقية المشككين.

* طبيعة الفتوحات الإسلامية: «ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب»:

 

هذا ما استشهد به الأعداء، من خلال أخلاقيات كتائب الإيمان، وهي تنشر نور الإسلام وعدله ورحمته بين الأمم التي فتحوا بلادها. يقول غوستاف لوبون: «ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب». ويقول توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام): «ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن، وعسكر أبو عبيدة في بلدة فحل، كتب الأهالي النصارى في تلك البلاد إلى العرب الفاتحين يقولون: يا معشر المسلمين! أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، وأنتم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكفٌّ عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا على أمرنا». «وغلَّق أهل حمص أبواب مدينتهم، دون جيش هرقل، وأبلغوا المسلمين أن ولايتهم وعدلهم أحب إليهم من ظلم الإغريق والروم وتعسفهم»(27).

هذه هي الحرب المشروعة في الإسلام، وقد أبطل الإسلام حروب التشفي والتخريب والتدمير والتنافس في مجالات الاقتصاد والسياسة.. مما تجعله الأمم الجاهلية ـ قديماً وحديثاً ـ سبباً لحروبها البشعة التي نشاهد لها أمثلة كثيرة هذه الأيام، في الهجوم على العراق، وما يجري من تدمير وقتل وتشريد فيما يسمى (حرب الخليج الثالثة).

ومن المعروف أن القائد المسلم ينذر العدو بالدعوة إلى الإسلام أولاً، وإلا فالجزية، وإن رفضوا استعان المسلمون بالله وقاتلوهم، مع تجنب قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتحريق النخيل، وهذا ما أوصى به أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يزيد بن أبي سفيان، لما أرسله فاتحاً وقائداً لأحد الجيوش الفاتحة المتوجهة نحو بلاد الشام.

كان الإسلام في فتوحاته رائد رحمة وعدل، وما حمل المسلمون السيف لإكراه الناس على اعتناقه، وإنما ليقرر حرية الدعوة بعد تقرير حرية العقيدة، ولإزالة العقبات من طريق الدعوة.. وهذا ما أخاف الأعداء من عقيدة الجهاد، فخدعوا بعض المتباكين من أبناء المسلمين.. وقام المستشرقون وأتباعهم من أبناء المسلمين، يشككون في مفهوم الجهاد عند المسلمين، ويهاجمون أنقى الفتوحات التي كانت في التاريخ(28).

وعموماً: فلا بد من عرض التاريخ الإسلامي بعيداً عن افتراءات الأعداء من مستشرقين وعلمانيين، وهذا العرض لا يمكن أن يتهيأ إلا إذا كان المنطلق إسلامياً، وبقلم من يعيش بكل كيانه في جو الإسلامº وذلك يعني منتهى الإنصاف، ولا يصح مثلاً أن يؤخذ تاريخنا من كتابات المنصِّرين المتعصبين، ولا من المستشرقين وأهل الأهواء(29).

ويندرج تحت مظلة هؤلاء العلمانيون والعصرانيون، وقد وجدنا نماذج من هذا التحامل على التاريخ الإسلامي وفتوحاته التي نشرت لواء العدل والمساواة في أرجاء المعمورة. ولكن العلمانيين والعصرانيين لا يفقهون.

وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين

 

ـــــــــــــــــــــ

(*) كتبت عنها مقالات في مجلة البيان الأعداد.

(1) انظر: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، ص 286 وحتى ص 292، محمد الناصر.

(2) إسلام آخر زمن: منذر الأسعد ص 58، 63/1987م.

(3) التاريخ السياسي للدولة العربية: ج 1/163) مطبعة الأنجلو المصرية، 1971م).

(4) دليل المسلم الحزين: حسين أحمد أمين، ص 172، طبعة مدبولي.

(5) نظرة في الجذور: الدوحة القطرية، العدد (101) رجب /1404هـ.

(6) سيكولوجية العنف: د. خالص جلبي (ص /157) دار الفكر دمشق و بيروت، عام 1419هـ).

(7) جريدة الرياض، عدد (10440) في 14/9/1417هـ.

(8) جريدة الرياض، العدد (10481) في 1/3/1997م.

(9) حديث صحيح متفق عليه، انظر شرح السنة للبغوي، ج 14/ 66.

(10) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (ج 5م / ص 446).

(11) الكفاية، للخطيب البغدادي، ص 76.

(12) ينظر: كتاب استخلاف أبي بكر الصديق، للدكتور: جمال عبد الهادي، ص 37-39، دار طيبة ـ 1405هـ بالرياض.

(13) جريدة الرياض، العدد (10496) في 20/3/1997م.

(14) نفح الطيب للمقري، تحقيق: د. إحسان عباس، ج 1 (353).

(15) الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لابن بسام، ج 1 (185) تحقيق د. إحسان عباس، بيروت (1399هـ).

(16) التاريخ الأندلسي: د. عبد الرحمن الحجي، ص 172، دار القلم في دمشق وبيروت ــ 1402هـ.

(17) جريدة الرياض، العدد (10419) في 23/8/1417هـ.

(18) واقعنا المعاصر: الأستاذ محمد قطب، ص 152، ص 316.

(19) جريدة الرياض، العدد (10601) في 28/2/1418هـ.

(20) الكامل لابن الأثير، حوادث 464هـ، بيروت 1400هـ.

(21) ينظر: البداية والنهاية، لابن كثير، ج 7 /149، ووفيات الأعيان، لابن خلكان، ج 2 / 128.

(22) الشرق الأوسط، عدد (8310)، بعنوان (لا إكراه في السياسة) في 29/8/2001م.

(23) من مقال للدكتور عدنان رضا النحوي، نشر في شبكة الإنترنت، وقد زودني الكاتب بنسخة خطية من مقاله مشكوراً.

(24) انظر كتابنا: الحياة السياسية عند العرب، دراسة مقارنة ص (307) عام 1414هـ مكتبة السنة بالقاهرة.

(25) انظر كتاب (وذكرهم بأيام الله) للشيخ محمد العبدة، ص 45 - 48 كتاب المنتدى، 1423هـ.

(26) ملحق الرسالة بجريدة المدينة: من مقابلة مع خالص جلبي، في 3/9/1423هـ.

(27) كتاب الدعوة إلى الإسلام: أرنولد، ص 73، نقلاً عن الأزدي والبلاذري.

(28) الحياة السياسية عند العرب ص 295 ـ 297.

(29) نظرات في التاريخ الإسلامي: د. عبد الرحمن الحجي / دار الاعتصام / ص 49-50، بإيجاز عام 1975م.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply

التعليقات ( 1 )

أحب إسلام دين النور

-

غزيز الحمير

12:39:17 2018-02-01

أشكركم على المعلممة