الطريق إلى الفتح


  

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما يذكر الفتح تتبادر إلى الذهن أجواء المعارك بما فيها من قصف عنيف، وقتال شديد، وتبدو في المخيلة صورة جيش منتصر، و آخر مندحر، وأسرى أذلاء، وفاتحون أشداء، والكل يرى شلالات الدماء، ومنظر الجثث والأشلاء، ويقال حينئذ: تحقق النصر وتمّ الفتح..

وكثير من الناس لا يعرفون من الفتح إلا هذا المعنى، مع أنه لا يعدو أن يكون إحدى صور الفتح، وتبقى هناك صور للفتح أعمق تأثيراً، فهناك فتح القلوب بالترغيب والاستمالة، وهناك فتح العقول بالحجة والبرهان، وهناك فتح في مجال المبادئ والأفكار، وآخر في مجال السلوك والأخلاق، ولقد أثبت التاريخ أن الفتح العسكري وحده لا يحقق تحولاً عقائدياً، ولا تغيراً سلوكياً، ولا تفوقاً حضارياً، وفي ضوء هذه الحقيقة ندرك طبيعة المعركة بين الإسلام وأعدائه، كما ندرك المفهوم الشامل للجهاد بمعناه الواسع الذي يعبر عن الصراع العقائدي، و المواجهة الحضارية، والذي يستلزم أن يكون لجهاد الدعوة وجهاد التربية دوره المعروف، وأهميته المطلوبة، والزمن اللازم لتحقيقه.

وعندما نتأمل في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ندرك تماماً أن الصحابة الذين انتصروا في ساحات المعارك وتفوقوا في ميادين القتال، كانوا قبل ذلك قد خاضوا معارك كثيرة وانتصروا فيها، وربما كانت تكاليف وجهود تلك الانتصارات أكبر، فجيل الصحابة الذي تخرّج من مدرسة النبوة، على منهج الإسلام انتصر في معركة الإيمان، فأخلص التوحيد، ووطد اليقين، وجعل العقيدة تهيمن على كل شئ في حياة الفرد والأمة، ثم انتصر على النعرات الجاهلية، والنزاعات النفسية، والنظرة الأنانية، فانصهر الجميع في بوتقة واحدة، ووحدة جامعة تستعصي على معاول الفرقة، وتسد أبواب الفتنة، وانتصروا كذلك على النفس وأهوائها، والدنيا وملذاتها، فكان الانتصار العسكري بعد ذلك متوقعاً، بل بدهياً بعد ما سبقه من الانتصارات التي استغرقت زمناً طويلاً، وتربية متأنية، وصياغة جديدة جذرية لمجتمع كامل.

ونحن في أفياء ذكرى فتح مكة أودّ أن أشير إلى الحقائق السابقة من خلال الوقائع الناطقة، وأول ما يلفت النظر أن قريشاً بسمعتها العظيمة، وقوتها الضاربة، لم تبدِ مقاومة تذكر في فتح مكة، مع أننا نعلم حميتها واستعلاءها في بدر، ونرى فورتها ونقمتها في عودها للقتال في أحد، ونعرف حلفها وتحزبها يوم الخندق، فما بالها وهي تُغزى في عقر دارها من أعظم أعدائها لا تبدي مقاومة تذكر؟ إنها بكل وضوح قد هزمت قبل المعركة، واندحرت قبل المواجهة، وفتحت قبل الفتح، ولذا كان لابد لنا أن ننظر إلى الطريق إلى هذا الفتح، ذلك الطريق الذي امتد ثمانية عشر عاماً كانت خلالها الدعوة والتربية، ثم التميز والمفاصلة ثم الهجرة والتجمع، ثم الدولة والمجتمع، ثم المواجهة والجهاد، وكل ذلك كان له دوره في فتح مكة، ولكنني سأشير إلى بعض ملامح الطريق من خلال صلح الحديبية الذي نرى فيه ما يأتي:

 

1- فتح وتأمين طريق الدعوة

وذلك من خلال الهدنة المؤقتة \" فإن الناس أمن بعضهم بعضاً واختلط المسلمون بالكفار وبادؤهم بالدعوة وأسمعوهم وناظروهم على الإسلام \" [زاد المعاد لابن القيم ] وبهذا تكسرت الحواجز النفسية الناشئة من العداء والمواجهة، ففكرت العقول بتدبر، وأقبلت النفوس برغبة ودخل الناس في الإسلام بقناعة، وكان العدد في الحديبية ( 1400) وصار في الفتح(10.000).

 

2- تقديم نموذج باهر للمجتمع المسلم

رآها المفاوضون الذين ترددوا على الرسول حتى قال عروة بن مسعود: \" لقد رأيت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً \".

وهكذا نظرت قريش إلى المسلمين بإعجاب وانبهار وتعظيم وتقدير، ودفعهم ذلك للمقارنة بمجتمعهم الذي صاروا يزهدون فيه ويحتقرون مبادئه وقيمه.

 

3- قوة التربية المنهجية

وظهر ذلك في موافقة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بأن يردّ من جاءه من قريش مسلماً، وألا تردّ قريش من جاءها مسلماً، وذلك لقناعة المصطفى بصدق المنهج، ووضوح الرؤية، وعمق اليقين في صفوف المسلمين، فلم يكن يخشى على أصحابه أن يتأثروا فيرتدوا، وكان يدرك أن من أسلم من قريش سيثبت وإن اضطهد وعذب، وهذا إعلان لقوة المنهج وقوة الأفراد.

 

4- الالتزام الأخلاقي العملي حتى مع العدو

فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ردّ من جاءه من المسلمين إلى قريش ولم يجف مداد العهد بعد، فظهرت صورة مشرفة لتعامل الدولة المسلمة { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا }.

 

5- خصائص المجتمع المسلم

الذي كان فيه الشورى والحوار واختلاف وجهات النظر الذي لا يفسد للودّ قضية، ولا يغيّر القلوب، ولا يفرّق الصفوف، كما أن فيه انضباط الفرد بالجماعة وموقفها، كما ظهر ذلك من مراجعة عمر - رضي الله عنه – للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكانت هناك أيضاً القوة والحمية في حماية الدين ونصرته عندما بايع المسلمون بيعة الرضوان، وكانوا على قلب رجل واحد حتى الموت.

نعم تلك خطوات على طريق الفتح الذي تمّ بلا مواجهة، فقريش فيما بين الحديبية والفتح هزمت عقائدياً وفكرياً وسلوكياً، قبل أن تنهزم عسكرياً، فهل يعي المسلمون وخاصة المتحمسون أن للنصر متطلبات وأن للفتح خطوات، وأن هناك حاجة للزمن، وافتقاراً للحكمة، وضرورة للتربية والدعوة ؟.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply