( النٌّهُوضُ بـ [ التأريخ ] )


 بسم الله الرحمن الرحيم
 
 القاريءُ في كُتُبِ ( التأريخ ) يرى أنه حَظِيَ بالإهمالِ من كثيرٍ, من أهله ، و ذلك في كونِهِ أُبقِيَ على حالٍ, واحدةٍ, ، و تُرِكَ على وضعٍ, راكدٍ, لم يتغيَّر.

و لا شكَّ أن إهمالَ ( التأريخ ) مَفسَدَةٌ كُبرى ، و خطيئةٌ جُلَّى ، لأن فيه تغييبٌ لحقائقه ، و سَترٍ, لمصداقية أخباره.

و مِن جرائره _ كما مرَّ _ جعلُه خامداً ، و تصييرُه ساكناً ، مما أدى إلى حِرمانه من ( النهوض ) به نحوَ ما يقتضيه كلٌّ زمانٍ, بحسبه.

و ( النهوض ) بـ ( التأريخ ) مما يتوافق مع مَسِيرِ ( التأريخ ): الزمني ، و المكاني ، و النوعي.

إيضاحُ ذلك: أن الزمان يدورُ دائرته ، و المكانُ يتبدَّلُ ، و الأحوالُ تختلف ، و ذلك كلٌّه لابدَّ و أن يكون فيه اختلافٌ بينَ السابق و اللاحقِ º فإما حسَنٌ و إما سيءٌ.

و المُرَادُ: أن يُنهَضَ بـ ( التأريخ ) نحوَ: الحُسنِ و الرٌّقِي ، و إقصاءَ ما يُسَبِّبُ له التَّخَلٌّفَ و التدنِّي.

 و ( النهوض ) بـ ( التأريخ ) يكون بأمورٍ, ثلاثةٍ,:

 

الأول : التَّنقِيَة:

إن القاريءَ لـ ( التأريخ ) يَستَاءُ جدَّاً مما شابَه من الشوائب المُذهِبَةِ لِرَونَقِ حقيقته º و هاتيكَ الشوائبُ على أقسامٍ,:

أولها: أخبارٌ مُختَلَقَةٌ مَكذُوبَةٌ.

حينَ يتجرَّدُ الكاتبُ لـ ( التأريخ ) عن المِصدَاقِيَّةِ في الكتابة يكون العبَثُ في ( التأريخ )، و هذه الشائبَةُ عَمَّت في السياق التأريخي ، و انتشرَت في المصنفاتِ التأريخية.

و أسبابُها الباعثةُ عليها عديدةٌ لكنَّ جُملَتَها:

أولاً: الصراعُ الديني.                 ثانياً : الصراعُ السياسي.

فَمن الأول أخبارُ الروافض ، و من الثاني الأخبار المكذوبة على بني أمية.

 

ثاني الشوائب: التفسيرُ الكاذب.

و أعني بالكاذب: معنيين:

الأول: الكذب الذي هو ضدٌّ الحقيقة و الواقع ، و هو عَكسُ الصدق.

الثاني: الخطأ.

و هما معنيانِ معروفان عند العرب، لابد لمن أراد أن يُدِيمَ النظرَ و الاطِّلاع في تأريخ الزمان من تحليلٍ, و تفسيرٍ, لوقائعه و أحداثه.

و إن ممن تصدَّوا لتفسير ( التأريخ ) قَومٌ خانوا ( التأريخ ) ففسروا أحداثَه وَفقَ ما يتناسبُ و أهوائهم و مذاهبهم، و بذلكَ قُلِبَت حقائقُ ( التأريخ ) ، و ضُيِّعَت نفائِسُ خبايا أحواله. فهاتان شائبتان رئيستانِ في ( التأريخ ) ، لابد من تصفِيَةِ ( التأريخ ) منهما ، و إظهارِ الخُلاصَةِ الحَقَّة.

 

الأمر الثاني _ مما يتعلَّقُ بالنهوض _: التَّقعِيدُ:

مِن صُوَرِ الإهمال لـ ( التأريخ ) فُقدانُ التَّقعِيد له ، و غيابُ التأصيل لأبحاثه.

التقعيدُ من مهماتِ العلوم _ أي: في ذات العلوم _ فَبِهِ يكونُ ضبطُ أصولِ العلم ، و بِهِ يكونُ إحكامُ الطَّرح ، و بِهِ يكون توجيهُ الخلاف و تبيين الوفاق في العلم.

و كلٌّ عِلمٍ, خَلا من التقعيد فهو زيفٌ و هباءٌ ، و الاشتغال به ضياعٌ و فساد.

و العَجَبُ أن ( التأريخ ) من العلوم التي لحقَها قُصُورٌ في التقعيد ، و هي بالأهمية له بمكانٍ, كبير ، و ذاك من جهتين:

الأولى: كونُهُ ديوانُ الزمان و الإنسان.

الثانية: ما مرَّ من كون التقعيد مهمُّ في العلوم.

و لابدَّ من مُراعاة أمرين حالَ التقعيد:

الأول: كونُ القاعدةِ مَنصُوصَاً عليها عند جُملَةِ المؤرخين.

الثاني: مراعاة الوفاقِ في القاعدة و الخلاف فيها.

و التقعيدُ لـ ( التأريخ ) داخلٌ فيه:

أولاً: التقعيدُ ( الكتابي ).

و أعني به: وَضعُ قواعدَ لمن يتصدَّى للكتابة التأريخية ، فإن كثيراً من المشتغلين في كتابة ( التأريخ ) يكتُبُ على غيرِ قواعد ، أو على قواعدَ اخترعها، و هذا مما لا يُرتَضَى أن يكون في الكتابات التأريخية، و مما يُلحَق بهذا:

أ- التقعيد في التفسير التأريخي.

ب- التقعيد لمسائل الترجيح º فإن أغلبَ مَن يكتُبُ في ( التأريخ ) يَعمَدُ إلى ترجيحٍ, و نَصرٍ, لقولٍ, دون اعتمادٍ, على قواعدَ في ذلك.

 

ثانيها: التقعيدُ للقراءةِ في ( التأريخ ).

و ذلك بوضعِ أصولٍ, لمن أراد أن يقرأ في ( التأريخ ).

و بمعنى آخر: وضعُ منهجيةٍ, للقراءة في ( التأريخ ) ، و يُرَاعى فيها:

أ- كونُ الكتابِ ، أو المنهج مما هو عُمدَةٌ عند مُحقِّقي المؤرخين.

ب- التدرٌّج في القراءة.

 

الأمر الثالث _ مما يتعلَّقُ بالنهوض _: صياغة ( التأريخ ).

إن صياغةَ ( التأريخ ) مرَّت في زمنِ التأليف التأريخي على نوعين:

الأول: صياغةٌ من حيثُ الترتيبُ التسلسلي ، كما هو الحال من ابن جرير و ابن كثيرٍ, و غيرهما.

الثاني: الصياغة من حيثُ الانتقاءُ لأحوالٍ, منه.

هذان النوعان يتعلَّقان بالترتيب _ أصالةً _ و جعلُهما نوعين للصياغة لما للترتيب من تأثيرٍ, قويٍ, في صياغة (التأريخ).

و النهوض بـ ( التأريخ ) في صياغته صياغةً تتناسبُ مع أهل الوقت الذي تكون فيه صياغة ( التأريخ ).

و من أمثلة الصياغة: السؤالُ و الجواب ، الجدولَة ، التشجير.

على أنه يَنبَغي ملاحظةُ شيئين:

الأول: البساطةُ و السهولةُ في الصياغة ، فلا طولٌ مملُّ ، و لا اختصارٌ مخلُّ.

الثاني: الشمولية لـ ( التأريخ ) و أحداثه ، سواءً شموليةً عامةً للتأريخ كله ، أو شمولية خاصة لبعض أزمانه.

 و إذا سلكنا تلك الأمور الثلاثة في النهوض بـ ( التأريخ ) يكونُ خروجنا بفوائد ثلاث:

الأولى: فهمُ ( التأريخ ).

الثانية: استيعابُ ( التأريخ ).

الثالثة: الاستفادةُ من ( التأريخ ).

و هذه واضحةٌ بَيِّنَةٌ لا تفتقر إلى إيضاح و شرح.

و صلى الله و سلم على نبينا محمد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply