ثلاث خطوات.. تخلية وتطهير وتحلية


  

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما نتحدث عن\"التربية الإسلامية\"، فإننا نعني بها ذلك المنهج الذي تحوي مجموعة القواعد والمبادئ التي وضعها الإسلام، في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، لتصحيح معتقدات، وتهذيب أخلاقيات، وتقويم سلوكيات، المسلمين، ذكوراً و إناثاً، شباباً وشيبة، أطفالاً ورجالاً.

والنظرية الإسلامية في التربية، سبقت كل النظريات الغربية، فهي ليست حديثة عهد، وإنما هي قديمة قدم الرسالة ومنهج التربية في الإسلام يقوم على ثلاثة محاور: أولها: المحور العقدي، وثانيها: المحور الخلقي، وثالثاً: المحور السلوكي، ولكل محور من هذه المحاور قواعد وأصول، وقد ربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أصحابه، تربية شاملة كاملة، فاهتم بتصحيح عقائدهم، وتهذيب أخلاقهم، وتقويم سلوكهم، فاستحقوا وصف من وصفهم فقال \"جيل قرآني فريد\"، ونحاول أن نتحدث هنا حول تلك المحاور الثلاثة من وجهة نظر تطبيقية عملية..

 

أولاً: التربية العقدية:

فعلى الرغم من أن الإسلامº عقائد، وعبادات، ومعاملات، وأخلاقيات، وحدود، إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ركز في الفترة المكية، وعلى مدى 13 سنة، على إصلاح منظومة العقيدة، فكانت شغله الشاغل، وكان شعار المرحلة الذي ظل يرفعه طوال هذه السنوات هو: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).

وقد ربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أصحابه، تربية شاملة كاملة، فاهتم بتصحيح عقائدهم، وتهذيب أخلاقهم، وتقويم سلوكهم، فاستحقوا وصف من وصفهم فقال \"جيل قرآني فريد\"، ونحاول أن نتحدث هنا حول تلك المحاور الثلاثة من وجهة نظر تطبيقية عملية

ولما كان الكفر والإيمان لا يستقران في قلب واحد، فقد أعلم الله الراغبين في الدخول إلى الإسلام بضرورة تفريغ القلب مما شابه من معتقدات باطلة، وذلك ليكون مؤهلاً لاستقبال الحق، قال - تعالى -: (لاَ إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرٌّشدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤمِن بِاللهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). {البقرة- 256}.

فقد كان الشرك متمكناً في قلوبهم، مستفحلاً في أخلاقهم، متفشياً في سلوكهم، ولذلك نجد القرآن المكي الذي مثل 86 سورة من بين 114 سورة قرآنية هي مجموع سور القرآن الكريم هي سور مكية

وللقرآن المكي خصائص أسلوبية، وأخرى موضوعية، فأما الأسلوبية، فيمكن حصرها في: قصر أكثر آياته وسوره، وكثرة أسلوب التأكيد ووسائل التقرير كالإكثار من القسم وضرب الأمثال، والتشبيه.

أما الخصائص الموضوعية فقد تركزت في: تقرير أسس العقيدة ودعوة الناس جميعًا إلى توحيد الله - تعالى -وإفراده بالعبادة، والتأكيد على بعث الأجساد مع أرواحها بعد الموت للحساب، وذكر قصص الأنبياء والأمم الخالية ودعوة الناس إلى الاعتبار بهم، ومحاجة المشركين ومجادلتهم وإقامة الحجة عليهم، والدعوة إلى أصول التشريعات العامة والآداب والفضائل لاسيما ما يتعلق منها بحفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسب وهي الكليات الخمس التي تتفق فيها جميع الشرائع.

وقد جاء القرآن المكي ليرسي قواعد الإيمان بالله - عز وجل - في قلوب الصحابة، وليتأكد من خلو قلوبهم من الشرك والكفر، ظاهره وباطنه، وليبني في نفوسهم دولة العقيدة الصحيحة، وليشدد على أن الأمر كله بيد الله، فهو - سبحانه - الفاعل المطلق في الكون كله، يفعل ما يشاء، متى شاء، وكيف شاء، بمن شاء، فهو - سبحانه - خلق الأشياء.

وقد حفلت كتب السيرة بالعديد من المواقف التربوية، العقدية، التطبيقية فعَن ابن عباس رَسُول اللَّهِ قَالَ: كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فقَالَ: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تجاهك، إذا سألت فسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعَن باللَّه، واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. (رواه التِّرمِذِيٌّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح).

فإن التربية الإسلامية للعبد المسلم، بجوانبها الثلاثة، عقائدية و خلقية وسلوكية، جديرة بأن تصحح عقائد المسلم، وتهذب أخلاقه، وتضبط سلوكه، وتقيمه على الطريق القويم، وبإمكانها أن تخلق منه إنسانا آخر،

والناظر إلى هذا الحديث الجامع ليجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يربي الغلمان والأشبال الصغار على أصول العقيدة، وكان يصحح لهم عقائدهم، ويغرس في نفوسهم أن النافع والضار هو الله، وأن المعطي والمانع هو الله، فما شب هؤلاء الغلمان صاروا رجالاً أقام عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دولة الإسلام.

 

ثانياً: التربية الخلقية:

المحور الثاني من محاور النظرية التربوية في الإسلام، هو الجانب الأخلاقي، فعن أبي عبد الرحمن معاذ بن جبل - رضي الله عنهما - عَن رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: اتق اللَّه حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن. (رواه التِّرمِذِيٌّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ).

من الثابت عند علماء النفس، وأساتذة التربية، أن مسألة تغيير أو تعديل الأخلاق، من أصعب العمليات على الإطلاق، فضلاً عن أن المحاولة ليست مضمونة النتائج، مأمونة العواقب.

فمن عاش 30 سنة مثلاً، وهو يكذب، أو يغش، أو يخون، أو يغدر، أو.... إلخ فكيف يمكن أن يتحول بين عشية وضحاها، صادقاً، أو أميناَ، أو وفياً، أو.... إلخ؟!!، المسألة جد عسيرة، ولو لم يكون من الله للمرء عون، فلن ينصلح حاله، أو تستقيم أخلاقه.

وقد وضع الإسلام منهجاً لتغيير الأخلاق، يقوم على مراحل ثلاث: -

أ) مرحلة التخلية: وهي مرحلة \"تفريغ\" الخلق السيئ، أو التخلص من الأخلاق الرديئة، والمقصود بها إخلاء القلب مما علق به من أدران وعلل وسوء خلق، وهي تحتاج أول ما تحتاج إلى اعتراف ورغبة وإرادةº اعتراف بأن أقتنيه بين جنباتي من خلق مخالف لتعاليم الإسلام، ومغاير لما جاء به رسولي - صلى الله عليه وسلم -، ورغبة في التغيير و الإنصلاح والتحول للأحسن، وإرادة وعزيمة قويين لمواجهة جموح النفس ورغبتها في الاستمرار على ما هي عليه: وقد بين القرآن ذلك أيما بيان فقال - تعالى-: (....إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم.،.... ) {الرعد-11}.

ب) مرحلة التطهير: وهي أصعب المراحل الثلاث، إذ أنها مرحلة انتقالية بين الشر والخير، وهي تعقب مرحلة التخلية، وهي مرحلة تحتاج إلى جهاد للنفس، وعزيمة شديدة، وإرادة صلبة، لمقاومة نزعات النفس، ونزغات الشيطان، والتسويل للنفس بأنه لا فائدة من العودة الآن بعد كل هذه السنين الطوال من الكذب والغش والخداع والخيانة والغدر، وفيها يصطرع جانب الخير والشر داخل الإنسان ولأيهما كان أقرب راح.

ت) مرحلة التحلية: وهي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل التربية، وفيها يتم تعبئة النفس، وملأها بالخير، فمن كان كذاباً يعود نفسه على الصدق ويحملها عليه، ومن كان خائناً يعود نفسه على الأمانة ويحملها عليه حملاً، وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم: \"من أراد أن يتخلق فليتصنع\"، لأن الخُلق الحسن إما أن يكون الإنسان مجبولاً ومفطوراً عليه أو أن يكون مكتسباً، وتصنع الخلق الحسن هو حمل النفس وتربيتها ومجاهدتها على اكتسابه، وقد يكون \"الرياء مركبة الإخلاص\" كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -.

 

ثالثا: التربية السلوكية:

المقصود بالسلوك: هو ما يسلكه الإنسان من طريقة أو منهج في التعامل مع الناس، وقد تميزت النظرية الإسلامية عن غيرها من النظريات التربوية الغربية بأنها ربطت القول بالعمل، وقرنت السلوك بالإيمان، وجعلت العمل والإيمان وجهان لعملة واحدة.

عن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي، - رضي الله عنه - قال: قلت: \"يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا، لا أسأل عنه أحدا غيرك\". قال: (قل آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم في صحيحه.

وقد بين - سبحانه وتعالى - أن الذي يسير وفق منهج الله يكون آمنا في حياته، لأن الإيمان ينير له طريقه، قال - تعالى -: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} (الأنعام: 122)، فالنور الإيماني يملأ جنبات روحه، فيشرق منها القلب، وتسمو بها الروح، ويعرف بها المرء حقيقة الإيمان ومذاقه.

وعندما يذوق الإنسان حلاوة الإيمان، وتتمكن جذوره من قلبه، فإنه يكون قادرا على الثبات على الحق، ومواصلة المسير، حتى يلقى ربّه وهو راض عنه، ثم إن ذلك الإيمان يثمر له العمل الصالح، فلا إيمان بلا عمل، فرتّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاستقامة على الإيمان.

 

وختاماًº

فإن التربية الإسلامية للعبد المسلم، بجوانبها الثلاثة، عقائدية و خلقية وسلوكية، جديرة بأن تصحح عقائد المسلم، وتهذب أخلاقه، وتضبط سلوكه، وتقيمه على الطريق القويم، وبإمكانها أن تخلق منه إنسانا آخر، سليم العقيدة، متين الأخلاق، سوي السلوك.

ويبقى الإسلام متفرداً في كون منهجه في التربية صالحاً للتطبيق في كل زمان ومكان، فضلاً عن أنه يضع في حسبانه حال الإنسان الذي يخضع للبرنامج، وسنه (صغير أم كبير)، وحالته التعليمية (متعلم أم أمي)، وجنسه (ذكر أم أنثى)، وسبحان الله الخالق الذي يعلم ما ينفعنا وما يضرنا، قال - تعالى -: (وَأَسِرٌّوا قَولَكُم أَوِ اجهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصٌّدُورِ* أَلاَ يَعلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply