القطيعة .. وفساد ذات البين


  

بسم الله الرحمن الرحيم

نحن في هذه الدنيا نعيش بعفو الله وننعم بنعمه، ويكمل بعضنا بعضا ومن لم نحتج إليه فهو من المسلمين الذين يدعون لنا في كل صلاة وندعو لهم وتربطنا بهم رابطة الإخوة في الدين ولولاها ما صحب بعضنا بعض.

أيها الإخوة: 

من ذا الذي ترضا سجاياه كلها *** كفى بالمرء نبلاء أن تعد معايبه 

 

فمهما بلغ الإنسان من الكمال لا بد أن توجد له خلة تعيبها عليه، أو صفة لا ترتضيها منه، ولو أنك عاتبت كل من أخطأ عليك لم تجد في الناس لك صاحبا كما قال الأول:

إذا كنت في كل الأمور معاتبا *** صديقك لك لم تلق الذي لا تعابته

 

ولربما تكون نقمت على أخيك أمرا من الأمور وهو من الصغائر لو صدرت من غيره، أو أنك تظن أن فعله خطأ وهو صواب ولكن النظرة السوداوية التي تنظر بها تجاهه هي التي أبدت لك ما تظنه عيبا كما قيل: 

وعين الرضا عن كل عيب كليلة **** كما أن عين السخط تبدي المساوي

 

إنه موضوع مهم نحتاجه جميعا بلا استثناء، وما ذاك إلا لأنه انتشر بين الناس وعمت الفرقة بينهم حتى دب الأمر إلى الأسرة الواحدة، بل إلى الولد مع أبويه فضلا عن الجيران والأقارب، إنها النفرة وفساد ذات البين بين الناس ولو فتشت عن سبب القطيعة والنفرة لوجدته هينا ولكن الشيطان نفخ فيه وفخمه، وباعد بين الطرفين ولضعف الإيمان وجد الشيطان قابلية له بين الناس فأصبح يحرش بينهم ويفرق الأواصر ويقطعه.

أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر قال - صلى الله عليه وسلم- : (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم). إن الناس في الفرقة والقطيعة بين اثنين ظالم معتدي وبين مظلوم معتدى عليه، ويعظم الاعتداء والظلم من شخص لآخر فيبدأ بكلمة لا تليق وينتهي بالقتل، فإذا دبت الفرقة بين الطرفين دخل الشيطان بينهما، فإن كان سبب الخلاف من أمور الدين فلا صلح بين الطرفين إلا بالدين، بأن ينزع العاصي، ويزول المنكر، وأما إن كان السبب من أمور الدنيا، فالهجر بينهما محرم لا يجوز وخيرهما الذي يعفو ويصفح، ويبدأ بالسلام. 

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي أيوب قال - صلى الله عليه وسلم- : (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام). 

لنتعرض لأسباب الهجر ووقوع الخلاف بين الناس في مجتمعناº فمن أهمها: اللسان، فإطلاقه بالكلام على عواهنه بلا ترو يفسد بين الناس كما قال – تعالى -: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً} [الإسراء: 53]. 

فمن لم يتكلم بالتي هي أحسن فإن الشيطان ينزغ بينهم بالإفساد والقطيعة حتى ولو لم يكن المتكلم يقصد ما وقع في قلب الآخر.  بل إن مجرد كثرة الكلام مع الآخرين خصوصا إذا مزجت بالمزاح دس فيها الشيطان ما يفسد العلاقة، ويوغر الصدور. 

ومن باب الكلام: العتاب الذي يقع بين المسلمين أمام الناس فإنه يوغر الصدور ويطيل زمن الفرقة وللشيطان فيه نصيب كبير، فإن اضطررت للعتاب فليكن سر. 

ومنها كذلك سوء الظن بالآخرينº تجد المرء يحمل كلام أخيه على أسوء المحامل، مع أنه يجد لها في  الخير محمل.

ومنها كذلك: ضيق النفس وعدم التحمل، والواجب على الجميع أن يعفو ويصفح عن زلات أخيه ولو أخطأ عليه فإن مناصحته له تكون سرا، فكما أنك قد تزل أحيانا بما لا يليق فالناس كذلك يزلون فلتتسع صدورنا للآخرين ولنترك زلاتهم فعما قليل يراجعون.

ومنها كذلك: سوء الخلق من البعض فبعض الناس يعيش بأخلاق سيئة فلا يحتمله الناس ولا يقبلونه وتجده في عداء مع الكثير من الناس، فمن أحب أن يقل شانؤوه ويكثر محبوه فليحسن خلقه وليبدأ بالكلمة الطيبة وليتجنب ألفاظ السوء فضلا عن أفعاله. فإن المسلم مطالب أن يحسن معاملته في كل شيء، بدأً بمعاملته مع الله سبحانه في أدائه لعباداته، ونهايةً بالحيوانات قال – تعالى -: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195].

 ومنها كذلك نقل الكلام بين الناس: وهي النميمة فالنمام يفسد في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنةº ولهذا حذر النبي- صلى الله عليه وسلم - منها وسماها العضه،  أخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود مرفوعا: (ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس). ألا فلنقلل من نقل الكلام بين الناس إلا فيما ينفع ويصلح قال - تعالى -: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء: 114].

ومن أعظم ما يوقع الخلاف بين الناس مخالفة الهدي النبوي في المعاملة بين الناس وذلك كمناجاة الرجلين دون الثالث، وعدم إجابة الدعوة، وعدم إفشاء السلام، وعدم التواصل والزيارة خصوصا للمرضى  والمحاويج، وغيرها من هدي النبوة. 

فالمسلم يصحب أخاه ويعامله بحبه له في الله رجاء ثواب الله، ولذا فإنه يحتمل منه الكثير لأنه سبب في نيل الثواب من الله، وأما من يحب الناس لمصالحه وشهواته فلن تنفعه صحبته في القيامة ولو نفعته في الدنيا {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67]. 

إن من عباد الله من هو مفتاح لكل خير مغلاق لكل شر فلنكن منهم، وفي باب خطبتنا، فلنسعى للإصلاح بين الناس، فإن ذلك من أعظم الطاعات، فلقد كان من شأن النبي صلى الله عليه وسم الإصلاح بين الناس. ومن عظيم فضل الإصلاح بين الناس أن النبي- صلى الله عليه وسلم -أباح الكذب فيهº أخرج البخاري ومسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة مرفوعا: (ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ويقول خيرا). 

وفي  الجهة المقابلة يجب علينا عندما يخطئ علينا أحد من الناس أن نسعى إلى العفو والصفح لأننا نرجو ثواب الله، ونغلب جانب الخير فيمن أخطأ علينا، ونتذكر حسناته الكثيرات، ونسمح عن السيئات القليلات في حقنا، ولنعلم أن من صفات الله أنه العفو كما قال - تعالى -: {إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا} [النساء: 149]  ولهذا كان من أعلى خصال النبي صلى الله عليه وسم أنه يعفو عمن ظلمه، وهكذا الصحابة من بعده، فمن القصص التي سطرها لنا التاريخ وكتب أهل العلم عن عفو النبي - صلى الله عليه وسلم -ما أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس قال: (كنت أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء).وأخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله رضي الله عنه قال: (لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسم أناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله فقلت: والله لأخبرن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتيته فأخبرته فقال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله!!، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر). وإن ننسى فلا ننسى عفوه عن أهل مكة عندما فتحها، فهؤلاء القوم هم الذين طردوه من بلده وسبوه وسبوا ربه، وصدوا عن سبيل الله، ووصفوه بكل وصف قبيح، فلما قدر عليهم قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). 

ومن عفو أصحابه من بعده قصة أبي بكر مع مسطح بن أثاثة الذي خاض في عرض عائشة وقذفها بالزنا، وكان أبو بكر ينفق عليه فلما فعل ما فعل قطع النفقة عنه وحلف ألا يعطيه بعدها شيئا فأنزل الله: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبـون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} [النور: 22]  فلما سمعها أبو بكر رد النفة عليه وكفر عن يمينه وقال: \"بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي\" والحديث في البخاري. 

ومن ذلك قصة عمر مع الذي دخل عليه وقال له: \"اعطني من بيت المال فإنك لم تعدل في العطية\" فغضب عليه عمر وهم به فقال أحد الجالسين: يا أمير المؤمنين إن الله يقول: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199]. وإن هذا من الجاهلين فما تجاوزها رضي الله عنه وسكن غضبه. إن الذي يصدر منه الخطأ تجاهنا لا يخلو من أن يكون عاقلا فهذا نحتمل خطأه لعقله، أو حاسدا فهذا نعرض عنه لنحرق قلبه، أو جاهلا فهذا نعرض عنه لنسلم من شره كما قال الأول: 

يزيد سفاهة فأزيد حلما ***  كعود زاده  الإحراق طيبا 

وقال الآخر: 

إذا نطق السفيه فلا تجبه*** فخير من إجابته السكوت 

 

وأخيراً: إن الذين يصرون على هجران إخوانهم بسب ملاحة بينهم، أو سوء عشرة هم يطيعون الشيطان ويعصون الرحمن،  فضلا على أنهم يحرمون أنفسهم من خير عظيم وهبه الله للناس في كل أسبوعº أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا: (تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا). فليعد كل منا إلى نفسه وليتواضع وليبدأ بالصلح ولو كان هو المظلوم، فما عند الله خير ومن تواضع لله رفعه. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply