التربية


  

بسم الله الرحمن الرحيم

ألم يأن للذين آمنوا أن تكون لهم آذان صاغيةٌ، وقلوب واعيةٌº فيستجيبوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم؟ يحييهم كتاب الله إذا تشبعت عقولهم بأنوار مواعظه الحسنة، وإرشاداته الصحيحة، وارتبطوا بالعمل به ارتباطاً يَهَنُ كيد المردة عن نقض عراه، حتى إذا رسخ في أذواقهم طَعمُ شجرتِه المباركة استقدروا ما ترميه أفواهُ الذين اتبعوا أهل المدنية الحديثة المصفَّدين بأغلال التقليد لهم في كل مثال جديد.

 

ذلك التقليد الأعمى، عِلَّتُه سوءُ التربيةِ الأولى، وعدمُ ارتواء النفس من أول النشأة بمحاسن الشريعة الغراء، ومن ثَمَّ كان الغالب على من شبوا في كفالة من قدروها حق قدرها علماً وعملاً شرَفَ الوجدانِ وسلامةَ القصد، والاستماتةَ في مدافعة الشبه التي تحركها استحسانات النفوس الكَدِرَة.

 

ولعلك تتلو قوله - تعالى -: (يَا أُختَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرَأَ سَوءٍ, وَمَا كَانَت أُمٌّكِ بَغِيّاً) مريم: 27 - فتجد المنكرين عليها فيما اتهموها به، أرادوا بنفي البغي والسوء عن أبويها المبالغةَ في توبيخها عما يراها الله منهº تنبيهاً على أن من كان أبواه صالحين ليس من شأنه التجردُ عن طورِهما، والتردي بغير ردائهما.

وما كان ينبغي له إلا أن يسلك سنن أعمالهما الصالحة شبراً بشبر وذراعاً بذراع.

كما أنك تجد أكثر الناشئين في حُجور السفلة، أو من أطلقت حُبالهم على غواربهم زمَن الحداثة في أفظع حال من فساد الأذواق، وعدم الخضوع لسلطة الأحكام الدينية، والانخداع بالظواهر المزخرفة عن الغوص على الحقائق التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من الحكمة.

 

تَعجَبُ العامةُ لرجل يبرع في فنون كثيرة، ويبدع في التصرف في مباحثها المشكلة، فَيُفرِغُها في قالب التحقيق، حتى إذا فاوضته في أي علم منها خُيِّل لك أنه الواضع لأصوله، ولا تلبث زمناً يسيراً تَجُسٌّ نبضَ أخلاقه إلا وجدت فيها عِوجاً وأمتاً.

أما الفيلسوف النَّقَّاد فلا يرى ذلك شيئاً عجباًº للنكتة التي لَوَّحنَا إليها، وهي سوء التربية الأولى.

والدليل على ما نقوله أن الصبي يولد على الفطرة الخالصة والطبع البسيط، فإذا قوبلت نفسه السَّاذَجَةِ بخلق من الأخلاق انتقشت صورته في لَوحِها، ثم لم تزل تلك الصورة تمتد شيئاً فشيئاً إلى أن تأخذ بجميع أطراف النفس، وتصير كيفيّةً راسخةً فيها حائلة لها عن الانفعال بضدها.

 

يؤيد هذا أنا إذا رأينا من الغرباء من هو لطيفُ الخطاب، جميل اللقاء، مهذب الألمعية لا نرتاب في دعوى أنه ممن أنبته الله في البيوت الفاضلة نباتاً حسناً.

 

ومن الناس من يدرك أن التقام الأطفال لثدي التربية، مما يؤثر في نفوسهم إصلاحاً عظيماً، ولكن فَرط الرأفة الذي ينشأ من التغالي في حبهم يكسر من صلابة الآباء شيئاً كثيراً، فيدفعهم عن مكافحة طباع أبنائهم الرديئة، ومقاومتها بالتأديب، وينفض بهم ذلك الإهمال إلى التنقل في مراتع الشهوات الزائغة.

 

كل، هذه رأفة غير ممزوجة بحكمةº التنقل في مراتع الشهوات تتولد عنه نتائجُ وخيمةٌ، تثير بين الآباء والأبناء من النفرة والتباعد بمقدار ما كان بينهما من الحنان والمقاربة، وتصير بهم إلى أن تُضَرِّسهم أنياب الاضطهاد، وتدوسهم أقدام الامتهان.

 

لا نريد بكراهة هذه الرأفة المفرطة أن يَفتَكَّ من الصبي سائرَ إرادته، ويسلب منه جميع عزائمه، كما يفعله الجاهلون بأساليب الإصلاح والتهذيبº إن ذلك مما يحول بينه وبين عزة النفس، وما يتبعها من قوة الجأش، وأصالة الرأي، والإقدام على إرسال كلمة الحق عندما يقتضيها المقامº فيكون ألعوبة بيد معاشريه كالكرة المطروحة يتلقفونه رجلاً رجلاً، أو آلة يستعملونها فيما يشتهونº التربية النافعة ما كانت أثراً لمحبةٍ, يطفئ البأسُ شيئاً من حرارتها، وصرامةٍ, تلطف الشفقة نبذة من شدتها، وهي التي يستوجب بها الولدان دعاء الولد بقوله: (رَّبِّ ارحَمهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) الإسراء: 24.

 

ولما كان الابن مثالاً لمن جعل الله عليه كفيلاً، ومظهراً لآثار تعود على وليه بِكِفل من أجزائها - فما بالنا لا نرسم في طباع أبنائنا أشكالاً محمودة، تمثل لمن بعدنا هيئةَ ما كان عليه سلفهم الصالح عِوَضَ أن ننقشها لهم في عَمَدٍ, ممددة، أو خشب مسندة.

 

وخاتمة المقال، أن تعميم التربية بين طبقات الأمة، شيء واجب، لا ينتظم لها العيش الناعم بدونه، ولا تشرق صحائفُ تاريخِها بسواه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply