الصراحة مع النفس


 

بسم الله الرحمن الرحيم

اعتاد بعض الناس على التغاضي عن أخطائهم، والحرص الشديد على تسويغها، والتماس المعاذير لدفنها والسكوت عنها..

بل قد يتجرأ بعضهم في الدفاع عنها وتحويلها إلى مكاسب وحسنات، كما اعتاد بعضهم النظر إلى الناقد -أيًّا كان هدفه أو أسلوبه- بعين الريبة والشك، ومن ثم: التهميش والإهمال.. !  ربما يكون سبب ذلك: ضعف في التربية والتكوين النفسي للفردº مما يجعله يخاف من الاعتراف بالخطأ، وربما يظن أن اعترافه بالخطأ يسقط من قدره ومكانته، وربما يكون سبب ذلك: التعصب والتحزب الذي يقود إلى الهوى الذي يعمي ويصم، وربما تكون هناك أسباب أخرى، تختلف باختلاف الناس، والأحوال... !

 وتزداد هذه الظاهرة بروزاً عندما يكون الخطأ منسوباً لأحد الأشياخ المتبوعين أو لإحدى التجمعات الدعويةº فيظن بعض الأتباع أن نقد الشيخ أو التجمع قدح وذم في إمامهم أو تجمعهم، ولهذا يكون الدفاع عنه أكثر تشنجاً وتعسفاً، وإلى هذا يشير (المعلمي) بقوله: (من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل: ومن أمضى أسلحته: أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم).[1]

هكذا اعتاد بعض الناس، ولكن القرآن الكريم يربينا على منهج آخر، إنه منهج المراجعة والمحاسبة وتدارس الأعمال بكل صدق وتجرد، ومن ثم: المصارحة والمكاشفة التي تتلمس مواضع النقص والعيب، لا لتضخيمها وازدراء النفس من أجلها، ولكن من أجل تدارك الحال وتقويمه.

انظر إلى الصحابة - رضي الله عنهم - في غزوة أحد بعد أن أصابهم ما أصابهم من اللأواء، والعنت والمشقة، يتنزل عليهم قول الله - تعالى - واضحاً جليّاً:  (إنَّ الَذِينَ تَوَلَّوا مِنكُم يَومَ التَقَى الجَمعَانِ إنَّمَا استَزَلَّهُمُ الشَّيطَانُ بِبَعضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَد عَفَا اللَّهُ عَنهُم إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران: 155]، ثم قال الله - تعالى - لهم:  (أَوَ لَمَّا أَصَابَتكُم مٌّصِيبَةٌ قَد أَصَبتُم مِّثلَيهَا قُلتُم أَنَّى هَذَا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم) [آل عمران: 165].

وفي غزوة حنين يعاتب الله - تعالى - المؤمنين بقوله:  (وَيَومَ حُنَينٍ, إذ أَعجَبَتكُم كَثرَتُكُم فَلَم تُغنِ عَنكُم شَيئاً وَضَاقَت عَلَيكُمُ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت ثُمَّ وَلَّيتُم مٌّدبِرِينَ) [التوبة: 25].

 بل إن الله - تعالى - يعاتب نبيه محمداً وهو سيد ولد آدم في غير آية، قال الله - تعالى -: (عَبَسَ وَتَولَّى (1) أَن جَاءَهُ الأَعمَى (2) وَمَا يُدرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَو يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكرَى (4) أَمَّا مَنِ استَغنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسعَى (8) وَهُوَ يَخشَى (9) فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى) [عبس: 1-10]، وقال - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبتَغِي مَرضَاتَ أَزوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التحريم: 1]، وقال - تعالى -: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَذِينَ صَدَقُوا وَتَعلَمَ الكَاذِبِينََ) [التوبة: 43].

غاية في الوضوح والصراحة التي تبني الثقة في نفس الإنسان، وتجعله يستثمر هفواته وأخطاءه في تقويم النفس وتزكيتها، وإعادة بنائها، وأما المجاملة والمداورة والمهادنة، فكما أنها ترسخ من الخطأ وتنميه وتسقي جذوره حتى يظهر أثره في الأجيال اللاحقة، فهي أيضاً تنفخ في الذات الإنسانية حتى تظن أنها قد بلغت الكمال أو قاربت..

! ! والمصارحة في بيان الأخطاء تعني: التناصح وتسديد المعايب بمحبة ورحمة وإشفاق، ولا تعني: التفاضح، والتراشق بالتهم للتشفي والانتقام، وتتبع الهفوات للتقليل من أقدار الناس وإسقاطهم.

وبين الحالين خيط رفيع لا يحسنه إلا من هداه الله - تعالى - إلى نور الحكمة وزكاة النفس.

 والإنصاف من الأخلاق النبيلة العزيزة..!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply