هكذا علمنا السلف ( 99 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

اعرف نفسك تعرف ربك:

من لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه، فاعلم أن الله - تعالى - خلق في صدرك بيتاً وهو القلب، ووضع قي صدره عرشاً لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى فهو مستو على عرشه بذاته بائن من خلقه.

 

والمثل الأعلى من معرفته ومحبته وتوحيده مستو على سرير القلب، وعلى السرير بساط من الرضا، ووضع عن يمنيه وشماله مرافق شرائعه وأوامره، وفتح إليه باباً من جنة رحمته والأنس به والشوق إلى لقائه، وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه أصناف الرياحين والأشجار المثمرة من أنواع الطاعات، والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس، وجعل في وسط البستان شجرة معرفة فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة والخشية والفرح به والابتهاج بقربه، وأجرى إلى تلك الشجرة ما يسقيها من تدبر كلامه وفهمه والعمل بوصاياه، وعلق في ذلك البيت قنديلاً أسرجه بضياء معرفته والإيمان به وتوحيده، فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار، ثم أحاط عليه حائطاً يمنعه من دخول الآفات والمفسدين.

 

ومن يؤذي البستان فلا يلحقه أذاهم وأقام عليه حرساً من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه، ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائماً همه إصلاح السكن ولم شعثه ليرضاه الساكن منزلاً، وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمــه خشية انتقال الساكن مـنه، فنعم الساكن ونعم المسكن.

 

فسبحان الله رب العالمين، كم بين هذا البيت وبيت استولى عليه الخراب وصار مأوى للحشرات والهوام، ومحلاً لإبقاء الأنتان والقاذورات فيه، فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن فيها ولا حافظ لها، وهي معدة لقضاء الحاجة مظلمة الأرجاء منتنة الرائحة، قد عمها الخراب وملأتها القاذورات فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام، الشيطان جالس على سريرها، وعلى السرير بساط من الجهل وتخفق فيه الأهواء، وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات، قد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة والركون إلى الدنيا والطمأنينة بها، والزهد في الآخرة، وأمطر من وابل الجهل والهوى، والشرك والبدع ما أنبت فيه أصناف الشوك والحنظل والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات من الزوائد و التنديبات والنوادر والهزليات والمضحكات، والأشعار الغزليات والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات وتزهد في الطاعات، وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والإعراض عنه، فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي واللهو واللعب والمجون، والذهاب مع كل ريح واتباع كل شهوة.

 

ومن ثمرها الهموم والغموم والأحزان والآلام، ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها، فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق ومعيشة ضنك، وأجرى إلى تلك الشجرة ما يسقيها من اتباع الهوى وطول الأمل والغرور، ثم ترك ذلك البيت وظلمائه وخراب حيطانه بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان مؤذ ولا قذر، فسبحان خالق هذا البيت، فمن عرف بيته وقدر الساكن فيه وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه، ومن جهل ذلك جهل نفسه وأضاع سعادته. وبالله التوفيق.

 

سئل سهل التستري: ((الرجل يأكل في اليوم أكلة؟ قال: أكل الصديقين، قيل له: فأكلتين؟ قال: أكل المؤمنين، قيل له: فثلاث أكلات؟ فقال: قل لأهله يبنوا له معلفاً)).

 

قال الأسود بن سالم: ((ركعتين أصليهما لله أحب إلي من الجنة بما فيها، فقيل له: هذا خطأ، فقال: دعونا من كلامكم: الجنة رضى نفسي والركعتان رضى ربي، ورضى ربي أحب إلى من رضى نفسي)).

 

العارف في الأرض ريحانة من رياحين الجنة إذا شمها المريد اشتاقت نفسه إلى الجنة.

 

قلب المحب موضوع بين جلال محبوبه وجماله، فإذا لاحظ جلاله هابه وعظمه، وإذا لاحظ جماله أحبه واشتاق إليه.

الفوائد ص230-232

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply