إلى أرباب الفكر وحملة المنهج ( 14 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ومن المعالم في تربية النبي - صلى الله عليه وسلم – لأصحابه:

الثالث والعشرون: استثمار المواقف والفرص:

عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مع أصحابه يوماً وإذا بامرأة من السبي تبحث عن ولدها فلما وجدته ضمته فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"أترون هذه طارحة ولدها في النار؟\"، قالوا: لا، قال: \"والله لا يلقي حبيبه في النار؟ [رواه البخاري (5999) ومسلم (2754)]

 

فلا يستوي أثر المعاني حين تربط بصور محسوسة، مع عرضها في صورة مجردة جافة، إن المواقف تستثير مشاعر جياشة في النفس، فحين يستثمر هذا الموقف يقع التعليم موقعه المناسب، ويبقى الحدث وما صاحبه من توجيه وتعليم صورة منقوشة في الذاكرة، تستعصي على النسيان، والمواقف متنوعة فقد يكون الموقف موقف حزن وخوف فيستخدم في الوعظ، كما في وعظه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عند القبر، فعن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا… ثم ذكر الحديث الطويل في وصف عذاب القبر وقتنته. [رواه ابو داوود (4753)].

 

وقد يكون موقف مصيبة إذا أمر حل بالإنسان، فيستثمر ذلك في ربطه بالله تبارك وتعالى، فعن زيد بن أرقم قال أصابني رمد فعادني النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال فلما برأت خرجت، قال فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"أرأيت لو كانت عيناك لما بهما ما كنت صانعاً؟ قال: قلت: لو كانتا عيناي لما بهما صبرت واحتسبت، قال: لو كانت عيناك لما بهما ثم صبرت واحتسبت للقيت الله - عز وجل - ولا ذنب لك\" [رواه أحمد].

 

بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخدم مثل هذا الموقف لتقرير قضية مهمة لها شأنها وأثرها كما فعل حين دعائه للمريض بهذا الدعاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا جاء الرجل يعود مريضا قال: \"اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدوا ويمشي لك إلى الصلاة\" [رواه أحمد (6564)].

 

بل يوصي المسلم بعظم مهمته وشأنه وعلو دوره في الحياة، فهو بين أن يتقدم بعبادة خالصة لله أو يساهم في نصرة دين الله والذب عنه، وقد يكون الموقف ظاهرة كونية مجردة، لكنه - صلى الله عليه وسلم - يستثمره ليربطه بهذا المعنى عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: \"إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ \"وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب \" [رواه البخاري (554) ومسلم].

وقد يكون الموقف مثيراً يستثير العاطفة والمشاعر كما في حديث أنس السابق في قصة المرأة.

 

الرابع والعشرون: التشجيع والثناء:

فقد سأله أبو هريرة - رضي الله عنه - يوماً: من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث أول منك لما علمت من حرصك على الحديث [رواه البخاري (99)].

 

فتخيل معي أيها الكريم موقف أبي هريرة، وهو يسمع هذا الثناء، وهذه الشهادة من أستاذ الأساتذة وشيخ المشايخ - صلى الله عليه وسلم - يحرصه على العلم، بل وتفوقه على الكثير من أقرانه، وتصور كيف يكون أثر هذا الشعور دافعاً لمزيد من الحرص والاجتهاد والعناية، وحين سأل أبيَ بن كعب: أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم؟ فقال أبي: آية الكرسي، قال له - صلى الله عليه وسلم -: ليهنك العلم أبا المنذر [رواه مسلم (810) وأحمد (5/142)] \" إن الأمر قد لا يعدو كلمة ثناء، أو عبارة تشجيع، تنقل الطالب مواقع ومراتب في سلم الحرص والاجتهاد، والنفس أياً كان شأنها تميل إلى الرغبة في الشعور بالإنجاز ويدفعها ثناء الناس -المنضبط- خطوات أكثر، والتشجيع والثناء حث للآخرين، ودعوة غير مباشرة لهم لأن يسلكوا هذا الرجل الذي توجه الثناء له.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply