ولا تكن كصاحب الحوت


بسم الله الرحمن الرحيم

 
تبدأ سورة القلم بقوله - تعالى -: (ن، والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون)، وقد يبدو هذا القسم غريباً، إذ هل قد بلغ الأمر بالرسول الكريم أن يشك في أنه مجنون؟. لقد كانت الآية واضحة وصريحة (ما أنت بنعمة ربك بمجنون)، فلم يكن الخطاب فيها: لست يا محمد مجنوناً، ولكن: لست بما كرّمك الله من نعمة الرسالة، وما تفضل به عليك من النبوة وحمل الدعوة بمجنون، فإنه لم يتهمك أحد بالجنون قبل ذلك، وإنك لصاحبهم الذي لبث فيهم عمراً من قبله فعرفوك وخبروا رجاحة عقلك، وما يوم الحجر الأسود منهم ببعيد، ولذلك فقد قرّعهم القرآن في موضع آخر بقوله: (وما صاحبكم بمجنون).

 

إن الحملات الدعائية الشديدة الموجهة ضد الدعاة والمصلحين عموماً، مع ما يرافقها من إيذاء نفسي وجسدي، لا شك تفعل فعلها في نفوسهم أيمكن أن يكون الكل على خطأ وهم وحدهم على الحق والصواب؟ وكأن الواحد منهم يكاد يضعف أمام هذه الحملات، وتحدثه نفسه تحت ضغطها أن يترك الدعوة فلماذا يسبح عكس التيار ويحمل السٌّلَّم بالعرض؟، فتأتي مثل هذه الآيات الكريمات لتثبت أفئدة الدعاة المصلحين، كما ثبتت من قبل فؤاد المصطفى - عليه السلام - وهي تخاطبه: إنك بنعمة من ربك ولست بمجنون، وإن لك على تحملك وصبرك لأجراً غير ممنون، وهل كان الله ليختارك للرسالة لو كنت مجنوناً؟ إنه لولا رجاحة عقلك وخطورة عملك وأهميته وعلو شأنه، ما كنت جديراً بهذه المهمة ولا ذلك الأجر.

 

وليس ذلك فحسب فإنك (لعلى خلق عظيم)، وكيف يكون صاحب الخلق العظيم مجنوناً، والحال أن سمو الخلق قرين العقل الراجح، ولا يتصور أحدهما بمعزل عن الآخر؟.

 

ثم لا تلبث الآيات إلا قليلاً حتى تنهى النبي - عليه السلام - عن طاعة المكذبين وطاعة كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم منّاع للخير معتد أثيم، وكيف يطيع صاحب الخلق العظيم من لا خلاق لهم، وكيف ينـزل من عليائه إلى حضيضهم؟

 

و بعد ذلك تَعرض السورة لقصة أصحاب الجنة وتشبه حال قريش بحالهم، حين يقسم أصحاب الجنة بأن يقطفوا ثمار جنتهم دون أن يستثنوا للمساكين شيئا، ولا يستمعون لنصيحة أوسطهم، فعاقبهم الله - تعالى - بالحرمان وزوال النعمة.

 

إن حال أصحاب الجنة مع أخيهم كحال قريش مع محمد - عليه السلام -، فإنه لأوسطهم وأرجحهم عقلاً وأحسنهم خلقاً، يدعوهم إلى ما فيه خيرهم، ثم هم يضغطون عليه بكل الوسائل ليتخلى عن دعوته، وفي القصة تحذير لقريش إذا خالفوا دعوة الرسول أن يصيبهم مثل ما أصاب أصحاب الجنة من زوال النعم عندما لم يستجيبوا لنصح أخيهم الأرجح عقلاً.

 

وفيها تنبيه للنبي - عليه السلام - أن لا يضعف وينساق لأهواء قومه فيشك في عقله أمام إجماعهم.. أو تحدثه نفسه كما يقول عقلاء زماننا!! \" إذا جن ربعك فلن ينفعك عقلك \"، إن النبي، والداعية، وكل مصلح، هو صمام الأمان لجماعته.. وبثباته ينجو هو وينجو معه من يكرمه الله - تعالى - بمتابعته.. و إذا ما داهن قومه، أو تخلى عن وظيفته في الدعوة والإصلاح، فيوشك الله - تعالى - أن يعمهم بعقابه.

 

وفي ختام السورة أمر للرسول، - عليه السلام - (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم).. اصبر فأنت بعدُ في سعة وسلامة، ولا تترك أداء الواجب، مثلما فعل يونس - عليه السلام - فضيق الله عليه في بطن الحوت.. وأنت الآن في نعمة بل أعظم نعمة وأتمها وأسبغها، فإياك أن تخلعها عنك، وما يدريك إن فعلت وألقيتها عنك أن يتداركك الله بنعمته مرة أخرى؟

 

ثم تتحول الآيات لتكشف دخيلة المشركين أمام ناظري الرسول الكريم: إنهم يعلمون علم اليقين أنك أرجحهم عقلاً حتى وهم يتهمونك بالجنون، وأنك في نعمة عظيمة يحسدونك عليها بل إنهم ليكادون يزلقونك بعيونهم لشدة ما يجدون في أنفسهم تجاهك، وإن كان الحال أنهم يتهمونك بالجنون عندما يسمعون الذكر، على أمل أن تتخلى عن رسالتك فتنزل إلى مستواهم ما داموا قد قصرت هاماتهم وهممهم عن أن يطاولوا درجتك أو حتى يؤمنوا بك ويتبعوك، ولو كنت مجنوناً كما يزعمون ما ركزوا فيك أبصارهم.

 

وهم بعد أحرار في هذه الدنيا أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا فإن هذا القرآن ذكر للعالمين، كل العالمين، وسيبلغ مداه الذي أراده الله - تعالى - ولن يتوقف نجاحه على إيمانهم أو عدمه (وما هو إلا ذكر للعالمين).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply