قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية ( 1 )


  

بسم الله الرحمن الرحيم

دعامتا التغيير الحضاري:

 وهي القصة التي وردت في سورة يس من الآية (13) إلى الآية (32).

وهي تحكي قصة رسولين أرسلهما الحق - سبحانه - إلى إحدى القرى، فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله  - سبحانه -  برسول ثالث لتقويتهماº فما كان من أصحاب القرية إلا أن استمروا في رفض الرسالة، بل وهددوا الرسل الثلاثة بالرجم والتعذيب.

ثم كان هذا الموقف العظيم للرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة، أي من مكان ليس بالقريب، وكذلك كان يسعى، أي يسرع في مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يُبتلى فيه الرسل، وذلك في مبادرة منه لم يحدها مكان ولا زمان ولا وقت، بل سعى ووصل في الوقت والمكان المناسبين، وعرض رأيه في القضية، وانتصر لهؤلاء الرسل ضد رغبة قومه.

واستمر أهل القرية في رفض الرسالة، وكذبوا الرجل المؤمن، ثم أقدموا على قتله، فلقي الله  - سبحانه -  شهيداً، وبشره الحق  - سبحانه -  بالجنة، فتمنى لو أن قومه يعلمون بمصيره وحسن عاقبته.

وبعد ذلك جاءت التعقيبات القرآنية الخاصة، والتي تبين مصير أهل القرية المكذبينº حيث أصابتهم صيحة الدمار، فأهلكتهم، فأصبحوا ميتين خامدين، كما تخمد النار. وهي سنة الله  - عز وجل -  الإلهية مع المكذبين.

ثم كانت التعقيبات القرآنية العامة، والتي تعلن الحسرة على كل من لا يقرأ التاريخ، ويشاهد سننه  - سبحانه -  الإلهية مع أعداء الدعوة، ومكذبي الرسالة، على مر تاريخ المسيرة الدعوية، ولا يعتبر بها، ولا يعي معنى الرجوع إليه  - سبحانه -  للمحاسبة والجزاء.

 

* أهمية الرؤية المنهجية:

وعندما ننظر إلى هذه القصة القرآنية العظيمة، برؤية منهجية شاملة واعية، نجد أن لها بُعدين:

البعد الأول الظاهر القريب: هو أن هذه القصة تتكون من جولات ثلاث:

الجولة الأولى: هي جولة المواجهة بين الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وبين أصحاب القرية.

الجولة الثانية: هي جولة المواجهة بين الرجل المؤمن وقومه.

الجولة الثالثة: هي جولة التعقيبات القرآنية الخاصة والعامة.

أما البُعد الآخر البعيد: فهو البعد التربوي العظيم الذي نستشعر من خلاله أن هذه القصة قد أوردت تلك التجربة الدعوية من ملفات تاريخ مسيرة الحركة الدعوية كمثال ثابت، وترجمة تطبيقية لسنَّتين اجتماعيتين عظيمتين من سننه  - سبحانه -  الإلهية.

والسنن الإلهية منها السنن الإلهية الكونية في الآفاق، أي في مجال عالم المادة.

ومنها كذلك السنن الإلهية الاجتماعية في الأنفس، أي في عالم البشر والأحياء عموماً.

وهذه السنن هي آياته - سبحانه - الدالة على صدق الرسالة، من حيث البرهان على إعجاز الله - جل وعلا - في الخلق، وعلى تفسير التحولات الاجتماعية والتغييرات الكونية والحضارية: {سَنُرِيهِم آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقٌّ أَوَ لَم يَكفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, شَهِيدٌ} [فصلت: 53].

 

وهذه السنن الإلهية لها سمات ثلاث:

أ - الثبات: أي لا تتبدل ولا تتغير: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبدِيلاً} [الأحزاب: 62].

ب - العموم: أي أنها تشمل كل البشر والخلائق، دون تفريق، ودون استثناء، وبلا محاباة: {لَيسَ بِأَمَانِيِّكُم وَلا أَمَانِيِّ أَهلِ الكِتَابِ مَن يَعمَل سُوءًا يُجزَ بِهِ} [النساء: 123].

ج - الاطِّراد: أي التكرار أينما وجدت الظروف المناسبة مكاناً وزماناً وأشخاصاً وأفكاراً: {قَد خَلَت مِن قَبلِكُم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرضِ فَانظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].

وهي عبارة عن قوانين وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها الحق - سبحانه - لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتنظم ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية، موضحة عوامل السقوط وعوامل النهوض الحضاري.

والسنن الإلهية الاجتماعية هي المرتكز الذي على أساسه يقوم مجال واسع في المنهج، وهو الفقه الاجتماعي والحضاري، وهذا الفقه يقوم على دراسة عوامل قيام وسقوط الحضارات.

وقد جاءت التأكيدات القرآنية المستمرة والمتعددة، على ضرورة دراسة هذا الفقه، ووضحت أن مدخله هو السير في الأرض، وفتح ملفات الأمم السابقة، لاستجلاء سننه  - سبحانه -  لفقهها، ولمعرفة حسن تسخيرها: {قُل سِيرُوا فِي الأَرضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11]. والقصص القرآني ما هو إلا برهان ثابت، وتطبيق عملي موثوق حول فاعلية تلك السنن.

 

أما عن السنَّتين الاجتماعيتين:

أولاً: السنة الإلهية الاجتماعية الأولى: فقد وضحت تجربة أصحاب القرية ـ كغيرها من التجارب الدعوية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ـ أن عملية التغيير الحضاري، وبعث أي أمة جديدة، إنما تقوم على دعامتين أساسيتين، أو قاعدتين رئيسيتين، هما:

الدعامة الأولى: هي وجود القاعدة الصلبة التي تقود التغيير، وتكون بمثابة الطليعة الفاعلة، والأداة المحركة، والقوة المنفذة، والتي تمثلت في وجود هؤلاء الرسل الكرام، وحركتهم بالرسالة داخل تلك القرية.

الدعامة الثانية: هي وجود القاعدة الجماهيرية، أو الرأي العام الذي يناصر الرسالة، ويحب دعاتها ويكره أعداءها، ويحرص على انتصارهاº والتي تمثلت في حركة الرجل المؤمن الذي جاء يناصر الرسالة، ويدافع عن الدعوة، ويؤيد الدعاة.

ثانياً: لقد بينت القصة سُنَّة إلهية اجتماعية أخرىº حيث أوردت صورة من صور سُنَّة التدافع الحضاري، أو قانون المدافعة القرآني.

وهي السنَّة الإلهية الاجتماعية التي تبين إرادة الحق ـ - سبحانه - ـ في أن يستمر الصراع والتنافس والتدافع، سواء كان فردياً أو جماعياً، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الإيمان وأهله والكفر وأهله، ما دامت السماوات والأرضº وذلك حتى تتم عملية انتقائية لتفرز الأصوب والأبقى والأصلح في كل شيء، سواء كانت أفكاراً أو آراء أو أفراداً أو أمماً، فإذا توقفت تلك العملية التدافعية الحضارية المختلفة الصور كان الفساد في الأرض، وهذا من فضله - سبحانه - من أجل ديمومة واستمرارية العملية الاستخلافية الإعمارية في الأرض: {وَلَولا دَفعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ, لَّفَسَدَتِ الأَرضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضلٍ, عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة: 251]º حيث نجد أن هذه التجربة ـ وكذلك كل التجارب الدعوية التي عرضها القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة ـ قد عرضت أمرين مهمين بارزين:

الأمر الأول: مدى حرص الرسل والدعاة على توصيل عقيدتهم ودعوتهم إلى جماهير الشارع بكل الوسائل.

الأمر الثاني: مدى حرص أعداء الدعوة على كل عمل مضاد، يواجه هذه العدوى الدعوية، ويؤدي إلى عملية عزل الدعوة عن الناس، وتحجيم الدعاة، وإن أدى الأمر إلى سجنهم أو نفيهم أو قتلهم.

 

* مخزون الأمة المعرفي:

تبدأ القصة بهذا التوجيه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {وَاضرِب لَهُم مَّثَلاً} [يس: 13].

وهو توجيه يدعوه أن يذكر مثلاً توضيحياً يقرب المعنى للأفهام حول القضية التي كانت موضوع الساعة آنئذ، وهي بيان إحدى صور حركة الداعية بالفكرة أو بالدعوة داخل المجتمع البشري، وبيان طبيعة البشر أمام الرسالة، وانقسامهم إلى فصيلين، أو إلى فريقين، وبيان مصير كل منهم، والذي يكون بناء على موقفهم من الرسالة قبولاً أو رفضاًº وذلك في أسلوب قصصي يوضح الأسلوب التقريري الذي ورد في آيات مطلع السورة حول:

الفصيل الأول: فريق أصحاب القلوب المغلقة على دعوة الرسل، المكذبين للرسالة، الرافضين للهداية، وهم أصحاب القرية، فكانت رسالة تهديد واضحة لقريش، ولأعداء الدعوة، في كل عصر.

الفصيل الثاني: فريق الذي يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب، أصحاب الفطر السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيقبل الرسالة، ويتبع الرسل، كما يمثله الرجل المؤمن.

وكانت رسالة تثبيت وتبشير للجماعة المسلمة من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكل المؤمنين في كل عصر. و {لَهُم} تشمل كل من يحضره المثل، سواء في ذلك أعداء الدعوة من الكافرين ـ وهم مشركو مكة في ذلك الحين ـ أو المؤمنونº وذلك لأن المنهج القرآني كان يرسخ قواعد ثابتة لقضية عامة، وسنة إلهية اجتماعية، يلزم أن يفقهها الجميع.

ويرى «المحققون المنصفون من العلماء على أن قصص القرآن واقعي وليس رمزياً، وحقيقي وليس تمثيلياً»(1).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply