هكذا رباني جدي علي الطنطاوي


  

بسم الله الرحمن الرحيم

حفيدة الطنطاوي - رحمه الله - تروي تجربته التربوية، وقامت بنشرها في حلقات في مجلة \"المجتمع\" الكويتية\" عام 1417 هـ، ثم جمعتها في كتاب يحمل هذا العنوان، نشرته دار المنار عام 1418 هـ، وأعيدت طباعته عام 1421 هـ، ونحن ننقل ملخص تجربة الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - من هذا الكتاب.

 

تجربة تربوية فريدة:

تقول حفيدة الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - عابدة المؤيد العظم عن تجربة جدها: اهتم جدي بموضوع التربية، ونبه الناس إليه في خطبه وكتبه وأحاديثه، وذلك بإنشاء دعامتين أساسيتين:

1- بناء الإيمان العميق.

2- زرع الإحساس الدائم بمراقبة الله.

وضرب لذلك مثلاً وهو عملية البناء، فهو لا يقوم إلا بأساس، ويضع من أراد أن يبني أساساً متيناً بحسب عدد الطوابق، وكلما زادت الطوابق زاد الأساس، ونحن نريد جيلاً عميق الإيمان قوي البنيان يفهم الإسلام فهماً صحيحاً مستقيماً لا اعوجاج فيه، ويتوجب على المربي استغلال المواقف لغرس هذه المبادئ مع التركيز الدائم.

ثم أتم جدي مثاله: تأتي بعد ذلك أعمال مهمة مكملة، لكنها ليست من الأساسيات، مثل: بناء الحوائط ووضع الشبابيك والتركيبات الداخلية، فهي مثل السنن المؤكدة التي ينبغي أن نشجع أبناءنا عليها بطرق متعددة لكن لا نجبرهم عليها، وأخيراً تأتي التشطيبات النهائية حيث يتم كل فرد بناء بيته حسب ذوقه، الرخام أو الدهان أو ورق الجدران...

وأكثر ما يعجبني في جدي أنه كان قدوة في كل ذلك يطبق ما يدعو إليه، فأثبت أن عمل الدعاة في التوجيه لا يتناقض مع تربية الأبناء، فكيف استطاع ذلك؟

بدأ بالتنبيه إلى وجود الله وقدرته منذ طفولة بناته، فإذا طلبت إحداهن منه شيئاً، قال لها: اطلبيه من الله فهو يسمعك ومعك أينما كنت، فإذا أتى بالمطلوب بعد أيام، قال: لأنك قلت: يا رب، رزقني الله مالاً وقدّرني على شراء ما تريدين، وربما اشترى لهن شيئاً لطيفاً ووضعه على طرف سريرها بعد أن تنام، وفي الصباح يخبرها إذا سألت بأن الله رزقها فلتحمده ولتشكره.

وإذا أقدمت إحداهن على ذنب صغير بَيَّن لها أنه عمل سيئ وطلب منها الاستغفار والتوبة لئلا يغضب الله منها ويحرمها ثوابه ولا يجيب دعاءها، وصارت إحداهن تدعو أحياناً بالمستحيل لشدة ثقتها بقدرة الله وقربه منها.

وقد كان يراقبنا عند الوضوء مثلاً وينبهنا إلى وجوب غسل العقب جيداً ويحذر: \"ويل للأعقاب من النار\".

وعندما رأى صلاتي السريعة ولما تفرض عليَّ الصلاة أخذني إلى غرفته ونصحني وذكرني وبيّن أن الصلاة المطمئنة الخاشعة لا تأخذ أكثر من خمس دقائق ولا شيء أهم من الصلاة أستعجل لأجله،

كما كان يمنعنا منعاً عنيفاً من نتف الحواجب أو الأخذ منها ويصوره من العظائم، وكذلك يفعل في لبس ما يصف أو يشف.

أما السنن فكان يحثنا عليها دائماً ويرغبنا ويشجعنا بالجوائز أحياناً لكنه لم يكن يجبرنا أو يكرهنا على شيء منها.

ملامح من شخصية المربي الناجح:

تقبل النقد:

في بعض الجلسات العائلية يطلب منا أن نعينه على نفسه فنهدي إليه عيوبه، كنا نشعر بالحرج فهو كبير العائلة، ونحن نحبه ونحترمه، لكنه كان يصرّ على سماعنا ويقنعنا بأنه لا يوجد كمال في الدنيا، والإنسان مهما كان منصفاً لا يستطيع معرفة نفسه تماماً، وأن يُبَصَّر المرء في الدنيا بعيوبه خير من أن يحاسب عليها في الآخرة... فنذكر له على استحياء وأدب بعض ما نعرفه فيشكرنا ويعد ببذل جهده للتقويم، وعند اتفاقنا يشهدنا جميعاً بأنه سيحاول التغلب على عيبه ويرجو منا تنبيهه إذا نسي وعاد...

 

هيبة المربي:

ينجح كثير من الآباء في أن يكون مهاباً قاسياً، يسير أهل بيته وفق مشيئته، لكن قليلاً منهم من ينجح في ضبطهم بالمحبة والمودة واللطف واللين، وهكذا كان جدي، فقد كان يتابع أحوالنا ويهتم بأمورنا ويسأل عن كل فرد، ويحل مشكلاتنا المادية والمعنوية على كثرتنا، ورغم هذا اللطف فقد كان حازماً في موضع الحزم.

فربما مازحنا ثم يعرّفنا أنه حان وقت الجد، وإذا أخطأنا تارة أو تقاعسنا عن ندائه رمانا بنظرة صارمة فتردنا عن الخطأ، وإن كان الخطأ كبيراً زاد إلى نظرته كلمات قاسيات معبرات بهدوء ودون صياح، فالصياح يفقد المربي هيبته، والانفعال يقلل من احترامه ويُدني منزلته، وكانت الأمور تقف غالباً عند هذا الحد، ولئن كان قد اضطر نادراً إلى ضرب بعض الأحفاد كما سمعت فلأن آخر الدواء الكي.

ونظريته التي علمها بناته أن الضرب للتأديب لا للانتقام، فلم يضرب أحداًº لأنه كسر شيئاً دون قصد ولو كان ثميناً، بينما عوقب أحد الأحفاد حين كسر زهرية رخيصة عبث بها فوقعت أرضاً، وعلة العقاب التمرد على القانون فالزهرية للزينة لا للعب.

قد يكون المربي اليوم هو الأقوى والأقدر، لكنه غداً الأضعف والأحوج إلى الرعاية والعناية والبر والحب، وما لم يفكر بهذا فهو الخاسر، والضغط يولد الانفجار.

 

مع الصغار:

في عالم الصغار:

كان جدي لطيفاً معنا ونحن صغار ودوداً، يرحب بنا إذا دخلنا غرفته تاركاً ما بيده مقبلاً علينا فيجلسنا على ركبتيه ويمازحنا ويتفاعل مع قصصنا.

وإذا وجد منا فتوراً ابتكر أسلوباً ليدخل البهجة لقلوبنا، فربما بنى لنا من وسائد الكنب بيتاً للعب، أو صنع لنا طعاماً نسرّ بتناوله، وربما خرج بنا في نزهة ممتعة، والأمثلة على ذلك كثير

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply