التنظيم في العمل الإسلامي الغاية والبناء


  

بسم الله الرحمن الرحيم

التنظيم وسيلة من وسائل التغيير وهو ضروري لكل عمل إسلامي تغييري، والغاية منه ليست فقط حشد الناس وتكديسهم، وإنما إحداث انقلاب جذري في طريقة تفكيرهم وأسلوب حياتـهم، من خلال نقلهم من واقع جاهلي سيئ إلى واقع إسلامي أفضل يتربون فيه وفق منهج إسلامي صحيح ينقي مفاهيمهم من كل ما شابـها من تصورات ساقطة شرعاً، وممقوتة خلقاً، ويسمو بـهم إلى أعلى المقامات، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وبـهذا يكون التنظيم في المفهوم الإسلامي عملاً تعبدياً غايته تحقيق العبودية لله رب العالمين، نقيض التنظيمات الجاهلية التي تعمل لإرساء قواعد الشرك والانحراف عن عبادة الله.

 

وهو بـهذا المفهوم أمر لابد منه، إذ لا تغيير بلا تنظيم، ولا تنظيم بلا قيادة، ولا قيادة راشدة بلا منهج راشد يهتدي بـهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو كغيره من الأطر التنظيمية ينبني على أسس ثلاثة:

 

أولاً: المبدأ أو المعتقد الواضح الذي ينادي به ويقوم من أجله.

 

ثانياً: الأنصار والأتباع الملتفون حول هذا المبدأ الملتزمون به.

 

ثالثاً: القيادة التي تسير بـهؤلاء الأتباع إلى تحقيق الأهداف\"[1].

 

ولابد عند بناء هذا التنظيم من ضرورة التخلص من كل القيم والمفاهيم الجاهلية والرؤى الضيقة الانحيازية، والانسلاخ من كل الولاءات القبلية، والعشائرية والحزبية، وإيثار التكتل على أساس الحب في الله والبغض في الله، والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وفي سبيل تقويته وبنائه بناء صلباً لابد من استرخاص كل غالٍ,، ولابد من التضحية كل حسب طاقته وعطائه، ولابد من اعتباره ملكاً لكل العاملين الإسلاميين الراغبين في الاهتداء بـهديه والاسترشاد بمنهجه، حتى العصاة منهم فالإسلام لا يحول بينهم وبين التعبد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

يقول القرطبي: \"وليس من شروط الناهي أن يكون عدلاً عند أهل السنة خلافاً للمبتدعة حيث تقول: لا يغيره إلا عدلٌ، وهذا ساقط فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس.. \"[2].

 

ولكن عند الاستعانة بالعصاة لابد من مراعاة المصالح والمفاسد والموازنة بين المنافع والمضار مع ضرورة إعمال التزكية والتربية، ورسم حد معين في السلم التنظيمي لا يتجاوزونه ما لم يجتز شروط الترقي التنظيمي التي منها بالتأكيد ضبط السلوك وسلامة الالتزام الديني من الخوارم والمعايب.

 

وحتى يحقق أهدافه التغييرية التي قام من أجلها عليه أن ينحاز نحو الحق أبداً، ويعكس في شعاراته دائماً مفهوم الإسلام الشامل، ومنهج الحق الموروث عن سلف هذه الأمة فإن ذلك يجعل منه محل رضى وقبول عند الله - تعالى - ثم عند الناس، ويعينه على تطويق الشائعات التي من الممكن أن يطلقها عليه خصومه لمحاصرته وعزله عن المجتمع، ثم بعد هذا لابد من تدرج التنظيم في تحقيق أهدافه، ولا داعي لسياسات التطبيق الفوري والعاجل لكل الأهداف، واختزال المراحل كلها في مرحلة واحدة، فإن أحكام الله التكليفية لم تأت دفعة واحدة، وإنما جاءت متدرجة كما هو معلوم.

 

يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -: \"ومن هنا كان نزول القرآن نجوماً في عشرين سنة ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئاً فشيئاً، ولم تنـزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس. وفيما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: مالك لا تنفذ الأمور، فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق؟ قال له عمر: لا تعجل يا بني فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة\"[3].

 

من هنا نؤكد على ضرورة اعتماد سياسة التدرج في مخطط التغيير الإسلامي، فإن الفساد الذي خلفه التخطيط الجاهلي لا يمكن إزاحته دفعة واحدة، وفي لحظة واحدة وجيزة وقصيرة، بل هو إرث ضخم لابد له من سياسة التدرج والنفس الطويل، فإن مثل هذه السياسة هي التي تعمق جذور العمل الإسلامي في الوقت الذي تستأصل فيه شأفة العمل الجاهلي.

 

وينبغي أن تكون الجهود كلها موجهة نحو إصابة الهدف الرئيسي، وأن تعضد ذاتـها من التبعثر والتشتت وتبديد الطاقات في معارك انصرافية فالمكر الجاهلي قد يستغل في التنظيم الإسلامي ضعف هذه الناحية فيعمد إلى شغله بقضايا جانبية تنسيه قضيته الأساسية، وتجعله يهيم كل يوم وراء حل مشاكله الداخلية، الأمر الذي يفقده التوازن، ويصيبه بالتشوش والضبابية في الرؤية والتقدير. ولكي ينمو التنظيم صلباً قوياً يلزم أن يضع نصب عينيه كسب العناصر المؤثرة في المجتمع إلى صفه، مع دراسة تركيبة المجتمع الذي ينشط فيه، لاسيما الشق النصراني فيه إذا كانوا يشكلون جزءاً مؤثراً من المجتمع لوضع مخطط يسهل أمر تحييد من يمكن تحييده، وكسب من يمكن كسبه، وعند الحديث عن هذا الشق يجب أن نعرف أن أفراده ليسوا سواء فمنهم من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك، ومن الفطنة والنباهة التصنيف والتمييز ثم التعامل مع كل صنف بما يستحقه.

 

يقول الإمام القرطبي - رحمه الله -: \"المشركون ثلاثة أصناف صنف يرجع بإقامة البرهان، وصنف بالقهر، وصنف بالإحسان، والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سبباً لنجاته وتخليصه من الكفر\"[4].

 

ولا مانع من الإفادة من تجارب الآخرين ما لم نجد مانعاً من عقيدتنا، وهنا لا بد أن يكون دورنا دور التقويم والتقييم لا دور التقليد والمحاكاة دون وعي أو إدراك للفروق الزمانية والمكانية، ودون وزن الأمر بميزان الشرع، فإن التنظيم الذي يجعل شعاره (إن الحكم إلا لله) جدير به أن يكون أول المقيدين بـهذا الشعار في أموره كلها. كما أن من الضروري أن يقدر التنظيم لكل ظرف زماني ومكاني ما يناسبه ويخوض صراعه وفق هذا التقدير فإن \"معرفة المسلم الداعي للأرض التي يتحرك عليها والظروف التي يعيش فيها أمر غاية الأهمية، فالمناسب في زمان أو مكان لا يناسب في زمان أو مكان آخرين، والمرء في حالة الاستضعاف غيره في حالة القوة، وهو في حالة التشتت والتفرق غيره في حالة الدولة وجمع الكلمة، ومن الخطأ أن تكون الدعوة إلى الله انفعالات وعواطف وردود فعل يستجيب لها الإنسان دون وعي، ثم يعجب أن لا ينصره الله\"[5].

 

وحركات التمكين الإسلامي التي لا تأخذ بعين الاعتبار تبدلات الأحوال والأزمان أشبه ما تكون بالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، ذلك لأن ما يلزم حين الضعف ليس بالضرورة أن يكون هو ما يلزم حين القوة، وشريعة الكف التي تتحتم عليها في أول نموها ونشأتـها ليست هي موجهات تدينها حين اشتداد الجناح، فإن لكل ظرف شريعته وموجهاته القرآنية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"وصارت تلك الآيات - يعني آيات الصبر والصفح - في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه. وصارت آيات الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو بلسانه، وبـهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون.. فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح، والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، أما أهل القوة فيعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين.. \"[6].

 

وعليه اعتماد مبدأ الكفاءة في بناء ذاته ورص صفوفه ينـزل الناس منازلهم ويضعهم في مواضعهم، ويواكب التطور الإداري والتنظيمي المتطور حسب ملاءمته ومناسبته للظرف الزماني والمكاني، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قدم الشام وجد معاوية رضي الله عنه قد اتخذ الحجاب، واختص ذاته ببعض المراكب والملابس العالية القدر والقيمة، فلما سأله عمر رضي الله عنه قال: إنا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا، فقال له عمر: لا آمرك ولا أنـهاك.

 

قال القرافي معقباً على هذا الموقف: \"ومعناه أنت أعلم بحالك هل أنت محتاج إلى هذا فيكون حسناً، أو غير محتاج فيكون قبيحاً، فدل ذلك من عمر وغيره على أن أحوال الأئمة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأعصار والأمصار، والظروف والأحوال، فلذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف، وسياسات لم تكن قديماً وربما وجبت في بعض الأحوال\"[7].

 

ومن الخطورة بمكان أن لا يأخذ الأمور بجدية، ولا يبادر إلى معالجة كل انحراف بصرامة عاجلة، حتى لا يتفاقم الانحراف ويأخذ منعطفاً ضاراً، وبعداً شريراً، وهذه المسارعة إلى المعالجة تبرز قوة التنظيم وقدرته في التحكم بالعمل وإداراته بشكل صحيح، ومراقبة كل ما يجري فيه، فإن الدولة الأموية لضعف جهاز المراقبة فيها ما كانت تعلم بتحرك العباسيين في داخلها ولم تتنبه إلا بعد فوات الأوان فكانت النهاية.

 

والقرار فيه لا ينبغي أن يكون مزاجياً فردياً وإنما شورياً فإن ذلك يحميه من التلاوم يشترك في صنعه جمع من أهل العلم من الشرعيين والساسة المتمرسين، وغيرهم من أهل الاختصاص، ويجب أن يدرك أهمية القاعدة الإسلامية العريضة في حمل رسالته فيعمل على الاتصال بـها وتوثيق الروابط معها فإن كل عمل سياسي يقلل من شأن القاعدة أو يحتقر دورها يكون مصيره الزوال. ولكن من المهم جداً أن يكون خطابه الإسلامي لها مميزاً من باب تحديث الناس على قدر عقولهم حتى لا يكون نفور وتكذيب، وعند تفهيمها لطبيعة صراع الأعداء معه لابد من أن يركز على أنه نابع من كراهية الإسلام والتضييق عليه.

 

وإذا كانت علاقته بالقاعدة الجماهيرية تمثل منطلقه الأساسي في تكوين المجتمع الإسلامي وبناء دولته الإسلامية، فإن تكوين جيل القيادة والريادة عموده الفقري وشريانه المتدفق بالنشاط والعطاء في شتى الأصعدة والميادين، واهتمام التنظيم بتكوين هذا الجيل وتربيته على أصول أهل السنة والجماعة في فهم الدين ينبغي أن تحتل موقعه المتقدم في سلم الأولويات، وتكوين هذا الجيل يقتضي تكثيف العمل التربوي الجاد وتأطيرهم من أجل المتابعة في أطر تنظيميه تسهل أمر اللقاء بـهم ومحاورتـهم فيما يحملون من هموم أمتهم، وبدهي جداً أن تكون لغة الحوار مع هذا الجيل المنشود على خلاف القاعدة الجماهيرية، وغياب هذا الجيل يعني باختصار سرقة الثمرة من قبل عناصر علمانية تتظاهر في البدء بالولاء للإسلام ثم سرعان ما تستغل العمل الإسلامي لمآربـها الشخصية والفكرية، ووجود هذا الجيل القيادي المربى تربية سليمة صحيحة ومركزة سيحول لا محالة دون محاولات السرقة التي بالتأكيد لن تتردد من الوثوب على المراكز القيادية في المسيرة الإسلامية إذا ما رأت فتقاً تنفذ منه.

 

ولا يهمل الميدان النسوي من العمل والتأطير فإن كثيراً من النساء اليوم اجتالتهن الشياطين وصرن ضحايا الفكر المادي الغربي، وما زال هذا الميدان مجالاً رحباً للتنافس بين كل التيارات الفكرية المتصارعة، ولا مراء في أن النساء لهن دور اجتماعي كبير. والمتتبع لمسيرة الدعوة الإسلامية يجدها تزخر بثبات النساء في مواجهة المحن ومشاطرتـهن الرجال مخاطر الدعوة، ومتاعب الطريق.

 

واليوم إن المرأة المسلمة في كثير من البقاع تصب طاقاتـها في الاتجاه المعاكس لعقيدتـها وقيمها بعد أن تعرضت لعملية مسخ فكري في غياب عمل إسلامي يؤطرها تحت سياجه المنيع، والتنظيم الإسلامي عندما يتجه نحو تأطير شؤون المرأة المسلمة إنما ينطلق من استشعار تعاظم دور القطاع النسوي في بسط النفوذ الفكري والسياسي بين المجتمعات، وفي التاريخ الإسلامي نجد كيف أن المرأة قامت بمهامها الدعوية بين مجتمعها، فأم عمار مثلاً آثرت تحمل مشاق التعذيب في سبيل دينها حتى ماتت شهيدة، وكذلك زنيرة جارية عمر ابن الخطاب صب عليها العذاب حتى فقدت بصرها، وأم شريك غزية بنت جابر بن حكيم - رضي الله عنها - هي أيضاً لما أسلمت تحركت بإسلامها بين النساء تدخل عليهن بيوتـهن في مكة وتدعوهن إلى هذا الدين والانخراط في صفه حتى علم مجتمع قريش بتحركها ونشاطها الدعوي بين صفوف النساء سراً فعذبوها بالإيقاف في الشمس والحبس عن الطعام والشراب، وحكموا عليها بالرحيل إلى أهلها\"[8].

 

وما زالت المرأة تحتفظ بعطائها هذا، وسيكون لها شأن عظيم إذا ما سخرت لخدمة الإسلام وأهدافه، وهذه المرحلة التي نحن فيها تستدعي توجيه الطاقات النسائية بحيث تثمر في مجالها وتدفع العمل الإسلامي نحو مزيد من تحقيق النجاحات، وبـهذا يكون التنظيم استوعب القطاع النسوي وتوجه إليه بأهدافه الإصلاحية وبرامجه التربوية حماية لهن من برامج التضليل والانحراف الموجهة من قبل أنظمة الحكم العلمانية، وبـهذا النشاط يكون قد أوجد قاعدة نسائية تكون له سنداً وردءاً، وتعينه على تربية الأجيال، ورعاية الأشبال قادة المستقبل...

 

----------------------------------------

[1] - العودة: الغرباء الأولون: 225 - 226.

[2] - الجامع لأحكام القرآن: 4/47 - 48.

[3] - الموافقات: 2/94.

[4] - الجامع لأحكام القرآن: 8/179.

[5] - العودة: الغرباء الأولون: 244.

[6] - الصارم المسلول على شاتم الرسول: 221.

[7] - الفروق: 4/203.

[8] - ابن حجر: الإصابة في معرفة الصحابة 8/248.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply