قراءة تربوية في غياب الآثار النفسية والاجتماعية للإخلاص


 

بسم الله الرحمن الرحيم

من روائع هذا الكتاب العزيز الذي ((لا يغسله الماء))º[1] (بل هو آياتٌ بيِّناتٌ في صدور الذين أوتوا العلم)[2] قولُ الله - عز وجل -: (إنّ الله لا يغيِّر ما بقومٍ, حتى يُغيِّروا ما بأنفسِهم). [3] فكلٌّ المصلحين من هذه الآية نبعوا وفقهوا مناهج التغييرº \"إنها لحقيقةٌ تُلقي على البشر تَبِعَةً ثقيلةًº فقد قضت مشيئةُ الله وجرت بها سنّته أن تترتّب مشيئةُ اللهِ بالبشر على تصرٌّف هؤلاء البشر، وأن تنفذ فيهم سنتُه بناءً على تعرّضهم لهذه السنة بسلوكهم\"[4]

 

ولا شكّ أنّ النفس قلعةٌ حصينةٌ لا يعلم أسرارها إلا الله - عز وجل -، ودرّةٌ مصونةٌ لا يسبر أغوارها إلا الراسخون في العلم، وبحرٌ زاخرٌ بالأمواج! تنتابها اللحظات الشعوريّة المتلاطمة، والخواطر النفسية المتضاربة في مدّها وجزرها، وعلوّها ونزولها، وصحَّتها واعتلالها، ورفعتها وانحطاطها، وظلمتها وإشراقها!

 

حتى لقد قابل القرآن بين الأرض والنفس في الرحابة والضيق، كما حكى الله - تعالى - في الثلاثة الذين خُلِّفوا أنهم (ضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت). [5] وذكر بعضُ المفسِّرين في تفسير قول الله - تعالى -: (وهي تجري بهم في موجٍ, كالجبال ونادى نوحٌ ابنَه وكان في معزلٍ, يا بُنَيَّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين)[6] أنّ \"الهول هنا هولان: هولٌ في الطبيعة الصامتة، وهولٌ في النفس البشريّة يلتقيان... وإنّ الهول هنا ليُقاسُ بمداه في النفس الحيّة بين الوالد والمولود، كما يُقاس بمداه في الطبيعة والموجُ يطغى على الذٌّرى بعد الوديانº وإنهما لمتكافئان في الطبيعة الصامتة وفي نفس الإنسان\"! [7]

 

وما أحسنَ قولَ الشاعر:

يا ربِّ إنّ لكلِّ جرحٍ, ساحلا *** وأنا جراحاتي بغير سواحلِ!

 

كل المنافي لا تبدّد وحشتي *** ما دام منفايَ الكبيرُ بداخلي!

والنفس في أغوارها وشعابها وادٍ, سحيق، وفي طيّاتها وأبعادها فجُّ عميق! ولعلّ هذا مما يُفهَم من إشارة قول الله - تعالى -(وفي الأرض آياتٌ للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون). [8] وقوله - جل وعلا -: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق). [9] قال القرطبي - رحمه الله -: \" قال بعض الحكماء: إنّ كل شيء في العالم الكبير له نظيرٌ في العالم الصغير الذي هو بدن الإنسان\". [10]

 

فالإنسان عالمٌ خاصُّ \"لا نظير له بين أبناء جنسه جميعاً: لا في شكله وملامحه، ولا في عقله ومداركه، ولا في روحه ومشاعره، ولا في صورة الكون كما هي في حسّه وتصوّره! \". [11]

 

والنفس كما تتلوّن بالواردات الحسنة، فإنها تتلوّث بالمكدّرات المتعفّنة! ولذلك فهي متقلّبة بين التقوى والفجور، والفوز والثبور: (ونفسٍ, وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها)[12]

 

 

والنفس كالطفل إن تُهمِله شبّ على *** حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ[13]

فهي مملكة المشاعر، وعالم الخواطر، من وحيها يستمدّ الشعراء قصائدهم، والصالحون معارفهم، والمحبّون مواجدهم، والمفكّرون روائعهم!

 

وتحسب أنّك جِرمٌ صغيرٌ *** وفيك انطوى العالم الأكبر!

 

\"غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالرحلة في هذا المتاع إلا القلب العامر باليقينº (وفي الأرض آياتٌ للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)[14]... وكثيرون يمرّون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب، لا يحسّون فيها حياةً ولا يفقهون له لغةًº لأنّ لمسة اليقين لم تُحيِ قلوبهم، ولم تبثّ الحياة فيما حولهم! وقد يكون منهم علماء (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا)[15] أما حقيقتها فتظلّ محجوبةً عن قلوبهم، فالقلوب لا تُفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان، ولا تراها إلا بنور اليقين\"[16]

 

وكما أنّ النفس مستقرّ الوساوس، ومستودع الهواجس، ومقبرة الدسائسº فهي كذلك مصنع الأعلاق والنفائس!

 

ولما كانت النفس كحصان امريء القيس:

 

مِكَرُّ مِفَرُّ مُقبِلٌ مُدبِرٌ معاً! *** كجلمودِ صخرٍ, حطَّه السيلُ من عَلٍ,!

كان السؤال المهمّ: كيف نقتحم هذه القلعة العتيدة، ونعبر هذه الفيافي البعيدة، ونتسوّر جدرانها العالية، وكيف نبلغ أعماقها سالمين من أمواجها العاتية!

 

فما أحلى متعةَ (اكتشاف) هذه الجزيرة المعزولة، و(معرفة) هذه القلعة المجهولة! ولا ريب أنّ هذه الرحلة، وإن كانت ولادةً عسيرةً، وشُقّةً بعيدةº ولكنها تجربةٌ مُفيدة، فضلا عن كونها متعةً فريدة!

 

وحسبنا في بيان أهميّة دراسة النفس وأحوال القلبº قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا وإنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه. ألا وهي القلب))! [17]

 

ومن سنة الله في خلقه أن يهتم الإنسان بجمال مظهره، كما يعتني بأصالة جوهرهº وما أحسنَ أن يستوي المظهر والمخبر! كما روى مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ّذرةٍ, من كِبرº فقال رجلٌ: إنّ الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنةً. قال: إنّ الله جميلٌ يحبّ الجمالº الكِبر بطرُ الحق وغمطُ الناس)). [18]

 

وقد يتوهّم بعض الناس أنّ قضيّة (المظهر) و(الجوهر) خاصّةٌ باللباس والزّيّ، ولكنّ الأمر ـ لعمري ـ أوسع من ذلك وأكبر، وإن كان ظهورها في اللباس أظهر! كما قال الله - عز وجل -: (إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهِّرين)º[19] لاسيما وقد ذهب بعضُ أهلِ العلم إلى أنّ المقصود بالـ(ثياب) النفس في قول الله - تعالى -: (وثيابَك فطهِّر). [20] قال ابن فارس: \"التطهٌّر: التنزٌّه عن الذّمّ وكلّ قبيحٍ,، وفلانٌ طاهرُ الثياب: إذا لم يُدنَّس، قال: * ثيابُ بني عوفٍ, طهارى نقيّةٌ* \"[21]

 

وقال الخليل وابن منظور: \" يقال: فلان طاهرٌ الثِّـياب إِذا لـم يكن دنِسَ الأَخلاق\". [22] وقال ابن منظور: \"قوله - تعالى -: (وثِـيَابَكَ فَطَهِّر)º معناه وقَلبَكَ فَطهِّرº وعلـيه قول عنترة:

 

فَشَكَكتُ بالرٌّمـحِ الأَصَمِّ ثِيابَه *** ليس الكَريمُ علـى القَنَا بِمُـحَرَّمِ!

أَي قَلبَه، وقـيل: معنى (وثـيابك فطهّر) أَي نَفسَكº وقـيل: معناه لا تَكُن غادِراً فتُدَنِّس ثـيابَك فإِن الغادر دَنِسُ الثِّـياب. قال ابن سيده: ويقال للغادر دَنِسُ الثـياب\". [23]

 

ولا ريبَ أنّ المظهرَ الطيِّبَ النقيَّ كثيراً ما يدلٌّ على الجوهرِ التقيّ كما جاء وصف القرآن النبي - صلى الله عليه وسلم - والذين معه بأنهم (سِيماهم في وُجوههم من أثر السجود). [24] وقال - تعالى - عن الفقراء الذين أُحصِروا في سبيل الله (تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً). [25] وقال - جل وعلا -: (والبلدُ الطيّبُ يخرج نباته بإذن ربّه)، [26] كما أنّ المظهر الخبيث يدلّك على الجوهر الخبيثº كما قال - تعالى -: (والذي خبث لا يخرج إلا نكداً)º[27] وقال جل جلاله: (قد بدت البغضاءُ من أفواهِهم وما تُخفي صُدورُهم أكبر)، [28] وقال - عز وجل -: (ولو نشاءُ لأرَيناكَهُم فلعرفتَهم بسِيماهم ولتعرفنَّهم في لَحنِ القول). [29]

 

فالجوهر والمظهر في دين الله وفي قلوب عباد الله الصالحين متظافران متناصران، وأما في عقول العلمانيّينº فإنهما متنافران متناحران!

 

وما أحسنَ تعبيرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قُبحِ التنافر بين الجوهر والمظهر بقوله: (المتشبِّع بما ليس عنده كلابِسِ ثَوبَي زور). [30] فـ(لباس الزّور) هنا لباسٌ (نفسيُّ)، والتشبيه النبويٌّ يكشف مرضاَ نفسيّاًº حيث يُخفي المريض عِلَلَه وأسقامَه بلباسٍ, كاذبٍ, من الـ(زٌّور) مُتظاهِراً ما ليس عنده!

 

ولله درّ الشاعر حيث قال:

ولما رأيتُ الجهلَ في الناس فاشياً *** تجاهلتُ حتى ظُـنَّ أنِّـيَ جاهلُ!

 

فوا عجباً كم يدّعي الفضلَ ناقصٌ *** ووا أسفاَ كم يُظهر النقصَ فاضلُ! [31]

 

ولعلّنا في هذا الزمان الذي انقلبت فيه الموازين، وانحرفت فيه المفاهيم، وصار أهلُه (يُحبٌّون أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا)[32] وساد التعالي والتعالمº أحوج ما نكون إلى علاج كما قال الشاعر:

 

إذا وصف الطائيَّ بالبخل مادرٌ *** وعيّـر قسّاً بالفهـاهة باقــلُ!

وقال السٌّها للشمس: أنتِ خفيّةٌ! *** وقال الدٌّجا: يا صبحُ لونُك حائلُ!

وطاولت الأرضُ السماءَ سفاهةً ***وفاخرت الشٌّهبَ الحصى والجنادلُ!

فيا موتُ زُر إنّ الحياة ذميمةٌ! ***ويا نفسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازلُ! [33]

 

وكلما ازداد الناسُ تخلٌّفاً وتقهقراًº ازدادوا تباهِياً وتفاخُراً! لأنهم اعتادوا على التظاهر بالتغيير، واعتاضوا عن الحقائق بالتزوير، كما قيل:

 

 

ألقابُ مملكةٍ, في غير موضعِها *** كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ!

وقد صار كثيرٌ من الناس يحرصون على (زخرفة المساجد) وقلوبهم خاويةٌ من حقيقة (عمارتها)!

فلا بُدّ أن نصدقَ في معالجةِ أمراضِناº لعلّنا ننال السلامة في ديننا ودنياناº فإنّنا نجد كثيراً من الحلول التي نتعلّل بها للإصلاح مُوغلةً في (السطحيّة): مثل تغيير (الأشخاص) وإبقاء (المناهج) و(الطرق) و(الأساليب) البالية من باب:

 

أُريها السٌّها وتُريني القمر *** وتزعُم أنّي قليلُ النظر!

 

أو محاولة حلّ المشاكل بمزيد من (تراكم المظاهر). كما تراه على مرِّ التاريخ في مناهج الجاهليِّينº (أتواصَوا به بل هم قومٌ طاغون)! [34]

 

وإنّ من تتبّع القرآن والسنة في قضية المظهر والجوهرº يجدها قضيّة مهمّة تتعلّق بكثيرٍ, من أصول هذا الدّين. مثل الثبات على الإيمانº كما قال الله - عز وجل -: (ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين)، [35] واليقين بالقيامة كما قال - تعالى -: (اقترب للناس حسابُهم وهم في غفلةٍ, مُعرِضون ما يأتيهم من ذكرٍ, من ربِّهم مُحدَثٍ, إلا استمعوه وهم يلعبون لاهيةً قلوبهم)، [36] وحقيقة الإهانة والإكرام، كما قال جل جلالُه: (ومن يُهِنِ الله فما له من مُكرِم). [37]

 

وقل مثل ذلك في الرزق: حيث يقابلنا القرآن بحقيقةٍ, عظيمةٍ,: (وفي السماء رزقكم وما توعدون فوربِّ السماء والأرض إنه لحقُّ مثلما أنكم تنطقون)، [38] \"وهي لفتةٌ عجيبةٌº فمع أنّ أسباب الرزق الظاهرة قائمةٌ في الأرض، حيث يكدّ الإنسان فيها ويجهدº وينتظر من ورائها الرزق والنصيب، فإنّ القرآن يردّ بصر الإنسان ونفسه إلى السماء، إلى الغيب، إلى اللهº ليطلّع هناك إلى الرزق المقسوم والحظ المرسوم... والقلب المؤمن يدرك هذه اللفتة على حقيقتها، ويفهمها على وضعها، ويعرف أنّ المقصود بها ليس ـ هوـ إهمال الأرض وأسبابهاº فهو مكلَّفٌ بالخلافة فيها وتعميرها، إنما المقصود هو ألا يعلّق نفسه بها، وألا يغفل عن الله في عمارتهاº ليعمل في الأرض وهو يتطلّع إلى السماء، وليأخذ بالأسباب وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه! \". [39]

 

وفي تربية أبنائنا نمرّ على قول نوح - عليه السلام -: (ربِّ إنّ ابني من أهلي)، وجواب الله - عز وجل - له: (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح)[40] ولا ندرك أنّ \"الأهل عند الله وفي دينه وميزانه ليسوا قرابة الدم، إنما هم قرابة العقيدة!... إنها الحقيقة الكبرى في هذا الدين، حقيقة العروة... التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة... فهو منبتُّ منك، وأنت منبتُّ منه ولو كان ابنك من صلبك! \". [41] ولو تساءلنا: لماذا يصيبنا الهمّ والغمّ حين يُخفق بعض أبنائنا في اجتياز بعض الامتحانات الدراسيّة أو الوظيفيّة؟ ولكننا لا نبالي بتهاونهم في أداء صلواتهم أو هجرهم للمساجد أو مخالطتهم لرفاق السوء؟! لكان الجوابُ على ذلك أنّنا نحرص على (تفوّقهم الدراسي والوظيفي) على الرغم من (انحطاطهم الأخلاقي)! ومن هنا ترى كثيراً من الأمهات يستحيَين من ضعف النتائج العلميّة لبناتهنّº فيدفعن لتفادي ذلك جهداً ماليّاً ونفسيّاًº ولكنّهنّ لا يستحيين من خروج بناتهنّ متعطِّراتٍ, متبرّجاتٍ,((كاسياتٍ, عارياتٍ, مائلاتٍ, مميلات))º[42] لأنهنّ يخشَين (المظاهر الاجتماعيّة) أشدَّ من خشيتهنّ (اللعنة النبويّة)! تماماً كما يستقذر بعضُ الناسِ الثيابَ الوسخةَ والمهترئةَ أكثرَ من استقذارِهم لثياب التبرٌّج والعري والسفورº وهذا الاستقذار صورةٌ من معاييرنا غير الأخلاقيّة في النقد، وهي مثالٌ لمعركة المظهر والجوهر!

 

وفي النواحي الاجتماعيّة لا يخطيء الناظر أننا قد هجرنا الآداب الشرعيّة في الزواج، ومن تأمّل أحوالَنا في شروط الموافقة على الرجل الذي يتقدّم لنكاح ابنتنا على سبيل المثال رأى عجباًº فإننا نستبشر إذا كان الرجل غنيّاً أو سليلَ أسرةٍ, مشهورةٍ, وإن لم تُعرَف بالتديٌّن! على حين ننقبض وتشمئزّ قلوبُنا إذا علمنا أنّ الرجل من أسرةٍ, فقيرةٍ,º وننسى قول الله - تعالى -: (قل لا يستوي الخبيثُ والطيِّبُ ولو أعجبك كثرةُ الخبيث)! [43]

 

إنّ أكثر همِّنا في صفات الزوج الذي نريده لابنتنا مركزُه الاجتماعي المرموق، ودخلُه المالي الكبير، ومستواه الأكاديمي، وحالُه من الغنى والفقرº وما ذاك إلا لأنّ الشهادات العلميّة والمكاسب الماديّة في ظنِّنا أساسُ الاستقرار الزوجي! وأما الدين والأمانة والعلم والأخلاق! فآخرُ ما نسأل عنه، إن لم يُنسِنا ذلك سرد قائمة الأثاث والممتلكات!

 

إنّ معاييرَنا في النقد وتقييم الآخرين تنبع من دواخلناº ولذلك كثيراً ما تكون مُوغلةً في الماديّة والنفعيّة! ولو درسنا بإنصافٍ, قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الرجلين الذي قيل في أحدهما: (هذا حريُّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفع)، وقيل للآخر خلاف ذلكº فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هذا خيرٌ من ملء الأرض من هذا)! [44] لأدركنا منهجَ الإصلاح النفسي والاجتماعي الذي كان يربِّي به النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الجيل الرساليَّ الأوّل!

 

وأما حياتنا السياسيّة التي هي أظهرُ عيوبِنا وأنكى جراحِنا في العالم الإسلاميº فهي أشبهُ ما تكون في أمراضها وخبائثها ومكايدها بعوراتنا النفسيّةº ولا فرق بينهما إلا بظهورها في هذه واستتارها في تلك. وقد نبّه الراسخون في العلم من قديم الزمان على ذلك كما قال ابن أبي العز: \"إنّ الله ما سلّطهم علينا إلا لفساد أعمالناº والجزاء من جنس العملº فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل. قال - تعالى - (وما أصابكم من مصيبةٍ, فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)[45]، وقال (أولما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها قلتم أنَّى هذا قل هو من عند أنفسكم)[46]، وقال - تعالى - (ما أصابك من حسنةٍ, فمن الله وما أصابك من سيّئةٍ, فمن نفسك)[47]، وقال - تعالى - (وكذلك نولّي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون)[48]º فإذا أراد الرّعيّة أن يتخلّصوا من ظلم الأمير فليتركوا الظلم! \"[49]

 

وكثيراً ما تطغى على الأنظمة السياسيّة في العالم الإسلامي عقليّة (الدعاية) و(الاستعراض)º بما في ذلك بعض الأنشطة التي تتسم بالصبغة الدّينيّةº ولهذا فكثيراً ما تكون عديمة الجدوى وفاقدةً لمصداقيتها الجماهيريّة. وهذا أمرٌ مشاهدٌ ملموسٌ، كما نصّ على ذلك الإمام القرطبي بقوله: \"كل من طلب هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاحº حتى إذا تمكّن رجع إلى عادته من خلاف ما أظهر! \". [50]

 

ومن المخجِل أنّ كثيراً من المنافقين وحاشية السّوء في طول العالم الإسلامي وعرضه يجتهدون في تعليق (صور) الرئيس في كلّ مكانº وهذا أظهرُ دليلٍ, على الضحالة الفكريّة التي تنخر الأنظمة السياسية في العالم الإسلاميº فالناس يتشاءمون من صُوَرِ ما يكرهون، ولا يزيدهم ذلك إلا بعدا!

 

ولعلّ هؤلاء قد أيقنوا من أنهم ليسوا في سُوَيداء قلوب الناسº فأرادوا أن تراهم عيونُ الناس بعد أن أقفرت منهم القلوب! وقد كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين تتعلّق قلوب الناس بالقائد حاضراً كان أو غائباً، حيّاً أو ميِّتاً! كما كان شأن تلك المرأة مع عمر بعد وفاته كما روى مالك أنّ عمر بن الخطاب مرّ بامرأةٍ, مجذومةٍ, وهي تطوف بالبيت، فقال لها: يا أمة الله لا تؤذي الناسº لو جلستِ في بيتك! فجلستº فمرّ بها رجلٌ بعد ذلك، فقال لها: إنّ الذي كان قد نهاكِ قد مات فاخرجيº فقالت: ما كنتُ لأُطيعَه حيّاً وأعصيَه ميّتاً)! [51]

 

-----

[1] رواه مسلم.

[2] العنكبوت 49.

[3] الرعد 11.

[4] في ظلال القرآن لسيد قطب - رحمه الله - 13/2049. دار الشروق. الطبعة الشرعيّة الثلاثون. 1422هـ.

[5] التوبة 118.

[6] هود 42.

[7] في ظلال القرآن 12/1878.

[8] الذاريات 20-21.

[9] فصلت 53.

[10] الجامع لأحكام القرآن 2/202. و17/40.

[11] في ظلال القرآن 27/3380

[12] الشمس 7-8.

[13] البردة للبوصيري. ضمن (مجموع المتون في مختلف المتون ص 2). طبعة الشؤون الدينية قطر.

[14] الذاريات 20-21.

[15] الروم 7.

[16] في ظلال القرآن 27/3379.

[17] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير: (إنّ الحلال بيِّنٌ، وإنّ الحرامَ بيِّنٌ...).

[18] قال النووي: \"بطر الحق: دفعه وردّه على قائله، وغمط الناس: احتقارهم\" رياض الصالحين ص 274. المكتب الإسلامي.

[19] البقرة 222.

[20] المدثر 4.

[21] معجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/428.

[22] كتاب العين ص 578، واللسان 4/506.

[23] اللسان 4/506.

[24] الفتح 29.

[25] البقرة 273.

[26] الأعراف 58.

[27] الأعراف 58.

[28] آل عمران 118.

[29] محمد 30.

[30] رواه البخاري ومسلم.

[31] الإيضاح في شرح سقط الزند وضوئه. للخطيب التبريزي. 1/312. تحقيق فخر الدين قباوة. دار القلم.

[32] آل عمران 188.

[33] الإيضاح في شرح سقط الزند وضوئه 1/312-318.

[34] الذاريات 53.

[35] العنكبوت 3.

[36] الأنبياء 1-3.

[37] الحج 18.

[38] الذاريات 22-23.

[39] في ظلال القرآن 27 /3381.

[40] هود 44-45.

[41] في ظلال القرآن 12/1880.

[42] إشارة إلى حديث مسلم.

[43] المائدة 100.

[44] رياض الصالحين ص 150.

[45] الشورى 30.

[46] آل عمران 165.

[47] النساء 79.

[48] الأنعام 129.

[49] شرح العقيدة الطحاويّة لابن أبي العز. ص 430 المكتب الإسلامي ط 5 1399 هـ نقلا عن الدولة في الإسلام د. عبد الحي يوسف ص 42.

[50] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 273، عند تفسير قوله - تعالى -: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) نقلا عن الدولة في الإسلام ص 42-43.

[51] موطأ مالك ص 424. دار الحديث. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply