السير المخزية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

فن السيرة الذاتية من أمتع فنون الأدب وأكثرها فائدةº وكتبه أعلى رواجاً وانتشاراًº لأن صاحبه غالباً ما يكون من الشخصيات البارزة التي لها حضورها واحترامها عند قطاع كبير من الناس وينظر الناس إليها بعين الإكبار والتقدير، وعادة ما يحاول الناس الوصول إلى تفاصيل حياة هذه الشخصيات، وتجدهم يسعدون ويستمتعون بأي لقاء صحفي يجرى معها أو سطور قليلة تتحدث عنها في مجلة أو صحيفة، ويتناقلون بينهم أخبارها وما قيل فيها سلبًا أو إيجابًا، وتبلغ سعادتهم غايتها إذا رأوا سيرة الشخصية المحببة لديهم كاملة بين أيديهم بقلم كاتبها يخط لهم تجاربه، ويحكي لهم نجاحاته وإخفاقاته وصور لهم مشاعره وخلجات نفسه والظروف التي مر بها والمتاعب التي واجهها، وكيف تغلب على الصعاب والعقبات في سبيل تحقيق أهدافهº وكلما كان صاحب السيرة أكثر جدية ونجاحاً كلما كانت هذه السيرة أكثر فائدة ومتعة.

الكتابة في السيرة الذاتية ليس بدعاً في الثقافة العربية الإسلاميةº فقد خط كثير من الأعلام سيرهم بأيديهم، وإن كان أكثرها على أسلوب التراجم المعتاد وقد يكون كتاب(الاعتبار) لأسامة بن منقذ أول كتاب عربي يؤلف على النمط المعروف في السير الذاتية، وقد كتبه مؤلفه بأسلوب أدبي شيق يعطينا صورة حية عن العصر الذي عاش فيه، خاصة أنه عاش في فترة حرجة من تاريخ الأمة، وهي فترة الحروب الصليبية، وقد تكون الكتابة في هذا الفن من أكثر الأمور صعوبة وحساسيةº فالمرء حينما يتحدث عن نفسه ومن منظوره الشخصي لا يأمن من الوقوع في الإفراط أو التفريطº إما أن يفرط في مدحها كالإنسان يرى نفسه في منزلة عالية لا تدانيها منزلة ويبرر أخطاءه ويحمّل الآخرين أسباب فشله وتقصيره، وإما أن يفرط في حق نفسه فيلحق بها من المساوئ ما هي بريئة منها خوفاً من اتهامه بالمبالغة في مدح نفسه والتعالي على الآخرين، إضافة إلى أن الإنسان يمر عليه في مراحل حياته حوادث كثيرة ولا يعلق في الذاكرة إلا القليل منها وبصورة ناقصة أو مشوهة في أكثر الحوادث، وقسم كبير من حياته مما يشترك فيه جميع الناس ومن العبث تسجيلهº لذا يحار من يسجل ذكرياته ما الذي يروي وما الذي يطوي وما يكون مهماً في حياة صاحبه قد لا يكون مهماً عند الآخرينº لذلك أحجم البعض عن تسجيل ذكرياتهم خوفاً من الوقوع في أحد هذه المزالق، بينما تجرأ آخرون فأقدموا على هذا العمل واستعدوا لتحمل نتائجه إيجاباً أو سلباً، فقدم بعضهم تجربة ثرية وصورة صادقة واضحة عن الفترة التي قضاها والأحداث التي مر بها والمجتمع الذي عاش فيه والناس الذين تعاطى الحياة معهم. تشاهد هذا مثلاً في مذكرات الشيخ محمد محمود الصواف والشيخ أبو الحسن الندوي حيث تجد حياة ملؤها العمل الجاد في خدمة الدين والدعوة إلى الله وتحمل المشاق في سبيل نصرة هذا الدين، بينما يطالعنا في هذه الأيام سير عجيبة كلها مليئة بالفضائح والرذائل والمخازي وما يلحق بها من سخافات وكأن أصحابها لم يعرفوا من العالم المحيط بهم إلا الرذائل ولا عايشوا إلا الفساق، والمنحرفون فكريًّا وأخلاقيًّا، وإنك ليأخذك العجب منهم كيف طاوعتهم أقلامهم فخطت مخازيهم بكل صفاقة وتبجح بطريقة تثير اشمئزاز القارئ من هذه المخازيº فأحدهم حينما يتحدث عن ذكرياته البائسة وعن مدينته التي عاش فيها يخيل للقارئ أنها مدينة تعج بالبغاء والفجور والمسكرات والعنف وأنها خالية من الشرفاء والأخيارº وقد احتفي بها الأوربيون، واعتبروها تقدم صورة صادقة للمجتمع المسلم الذي يعيش فيه المؤلف. كيف لا وهو من بني جلدتهم ويتكلم بلسانهم، ومنهم من وصل به الحال أن يتهم أباه بالشذوذ الجنسي ومنهم من يحكي عدداً من مغامراته المخزية وكيف كان يتعدى على حرمات البيوت وينتهك الأعراض في غفلة من الزوج أو الأهل، ومنهم ومنهم ومنهم... ، ويحق لنا أن نتساءل ما الذي دفعهم لفضح أنفسهم والمجاهرة بما يُستحيى من ذكره أمام الملأ مع أنه ليس مستغربا من أمثالهم، ويجيب بعضهم بأن تقديم الحقائق بصراحة ووضوح بدون إشارة أو تلميح سواء كانت محاسن أو مساوئ من الفضائل -إن كان عندهم فضائل- وأن الاقتصار على المحاسن وإغفال المساوئ يعتبر غشًّا للقارئ ووأداً للحقيقة، ويعيبون على العقلية العربية خضوعها لموروثات دينية وأخلاقية جعلتها تنفر من الصراحة وتميل إلى إخفاء العيوب وتقديس الذات، وفي المقابل يشيدون بالعقلية الغربية في تقبلها لنقد الإنسان نفسه علناً وعدم إخفاء الحقيقة أو المغالطة فيها، وهذا موجود في تراثهم الديني حيث يقدم المذنب على الاعتراف بكل ما اقترف من الذنب أمام القسيس ويكون ذلك بمنتهى الوضوح والصراحة، ويؤيد هذا المنهج الداعي للصراحة بعد امتزاجه بالأفكار والفلسفات التي نادت بالحرية الشخصية ورفع الرقابة الاجتماعية التي تحاصر الإبداع والإنتاج الفكري والأدبي، ونتيجة لذلك سطر أدباؤهم سيرهم الذاتية كما هي بمحاسنها ومساوئها.

ويرد على هؤلاء بأن المقياس الصحيح لمعرفة الفضائل والرذائل هو الدين الحق المنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الإسلام وليست مناهج الشرق أو الغربº فالصدق في ميزان الإسلام من فضائل الأخلاق، والكذب من رذائلها، وقد وردت آيات وأحاديث في فضل الصدق وذم الكذب، إلا أن الإسلام نهى عن المجاهرة بالمعاصي وهتك ستر الله على العبد، ونسألهم: أين صدقهم وصراحتهم في الكشف عما تحمله صدورهم من الكيد للإسلام وأهله؟!! أما مسألة الاعتراف بالذنب أمام القسيس ليغفر له ذنوبه فليس هذا في دينناº فالعالم له احترامه وتقديره ومكانته لكن لا يصل به الحال أن يغفر الذنوب، فلا يغفر الذنوب إلا الله - عز وجل -، وقد تكون الأسباب التي دعتهم لنشر مخا زيهم هي:

ـ انتشار الصحوة الإسلامية المباركة التي كشفت زيف العلمانيين، وعرفت الناس بالمصدر الحقيقي والصحيح للهدى والخير والحق، ألا وهو دين الإسلامº فانصرف الناس عنهم ونبذوا أفكارهم وأدار الزمان لهم ظهره، وتحولوا إلى البقعة المظلمة كظلمة قلوبهم وأفكارهم، فأرادوا لفت الأنظار إليهم والعودة إلى دائرة الضوء بأي شكل من الأشكال، حتى لو كان في ذلك فضحاً لأنفسهم وإلحاق العار والخزي بهم.

ـ التقليد الأعمى والأصم للأدباء الغربيين، كعادتهم في تقليدهم في كل شيء.

ـ نشر الرذيلة في المجتمع المسلم وتهوين أمرها في نظر القارئ.

ـ تشويه صورة المجتمع المسلم.

ـ وأخيراً هي عقوبة إلهية لفضحهم أمام الملأ بأقلامهم، حتى لا يقول أحد: مُفترى عليهم!.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply