حين يكون التقدم مغامرة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

التقدم المادي والعمراني يشكل في حد ذاته قيمة إنسانية، إنه دليل على فعالية الإنسان وجدارته وزيادة وعيه وتأثيره في البيئة المحيطة، وذلك التقدم مهم من وجه آخر لمواجهة الزيادة السكانية، حيث إن كثيراً من الموارد هو بطبيعته محدود، ولا يمكن تنميته إلا من خلال المزيد من الجهد البشري والمزيد من التنظيم العمراني، وأعتقد أن هذا لم يعد اليوم موضع جدال لدى شعوب العالم أو لدى معظمها على الأقل، لكن علينا دائماً أن نتذكر أن العظمة الحقيقية للإنسان لا تكمن في عظمة الرفاهية التي يحققها، أو في رقي الإنتاج المادي الذي يصل إليه، وإنما تكمن في مدى ما يمكن أن يصل إليه من سمو روحي وخلقي، وفي مدى انسجام أوضاعه وأحواله مع أهدافه وغاياته الكبرى، وفي مدى التوازن الذي يستطيع الاحتفاظ به على صعيد شخصيته وعلى صعيد علاقاته بمفردات الوجود.

 

قد بات من الواضح اليوم أن العالم الإسلامي يحقق إنجازات عمرانية متتالية، وتلك الإنجازات تنقله خطوة خطوة نحو فلك الحياة الغربية، أو قل – على نحو أدق – نحو المفاهيم الأساسية التي تحكم الحياة في الغرب، وهذا يشكل خطورة بالغة على رؤيتنا للحياة، وعلى علاقتنا بمجمل الإنجازات الحضارية. إن الحضارة الحديثة تقدم ما تقدمه من مفاهيم للحياة العصرية من أفق علماني لا ديني، يرى في (الدنيا) المرحلة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يحقق فيها ذاته، ويصل فيها إلى رغائبه وطموحاته.

ويمكن القول: إن هذه الوضعية تشكل قطيعة صارخة مع مفاهيم ما قبل عصر النهضةº فقد كان مفهوم وجود حياة أخرى يجب عمل شيء من أجلها واضحاً في الذهنية الغربية، وكانت النصرانية – على ما فيها من تشويه وتحريف – قادرة على توليد مثل ذلك المفهوم، لكن منذ بدايات عصر النهضة بدأ الأمر يختلف حيث أخذت المفاهيم الأساسية التي تشكل الحياة المعنوية في الغرب بالتبدل على نحو شبه كلي، فقد كانت أوروبا تستمد من النصرانية روح (الشهيد) الذي يضحي في سبيل غيره، وفي سبيل نيل حياة أخروية أفضل من حياته الدنيوية، ثم حدث تحول رمزي مخيف، حيث صارت أوروبا تستوحي من التراث الإغريقي روح (البطل)، البطل مستكشفاً، والبطل فناناً، ومكافحاً وغازياً ونهاباً ومفسداً وجامعاً للثروة...، وصار من غير الممكن لأي إنسان أن يحقق نجاحاً يُذكر له من غير قدر معترف به من البطولة والتفوق الظاهر.

 

التحول من استيحاء روح الشهيد إلى استيحاء روح البطل، هو التحول الذي بات يظلل حياة كثير من المسلمين اليوم، ولكن نظراً لأننا نعاني من الكثير من القصور، والكثير من الفوضى في مختلف جوانب حياتنا، فإن كثيراً من الناس اليوم صاروا بالمقاييس الغربية أبطالاً، حيث حققوا النجومية الاجتماعية، وجمعوا الثروات، وصاروا – كما يقال – يشكلون رقماً صعباً يُحسب حسابهº لكن بطولتهم تتحقق خارج القانون، وخارج الرؤية الإسلامية للحياة، وخارج التوازن المطلوب، أي عن طريق تضييع الواجبات والحقوق وسلوك طرق اللصوصية والرشوة والغش والتحايل والخداع والكذب.

 

كلما تقدم العمران وتعقدت المصالح، وكثرت الحاجات التي يُنظر عليها على أنها أساسية، شعر الناس بأنهم يغوصون أكثر فأكثر نحو قاع (الدنيوية)، حيث يصبح العالم الذي يعيشون فيه – بما فيه من متطلبات وتحديات ومرفهات – مطبوعاً بطابع حسي مادي مصلحي، وبذلك تتضاءل شيئاً فشيئاً مشاعرهم وهمومهم الدينية، حيث يتم إعطاء دور أكبر للتمتع وتلبية الرغبات الحسية، وحيث تتم إدارة الحياة بعيداً عن التضامن الأخوي عن طريق مؤسسات كثيراً ما تفتقر إلى الشفافية والرحمة والشفقة على الضعفاء والمحرومين.

أضف إلى ذلك أن اتساع دور (العقل) في الحياة يولّد لدى الناس انطباعات كاذبة بالسيطرة على الحياة، مما يقلل من دور العقيدة في تغذية مشاعر العبودية والافتقار لله - تعالى - ورجاء ما عنده مما هو في مكنون الغيب، هذه سنة الله في الخلق، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، والنجاة من هذه الوضعية تحتاج إلى تركيز ومجاهدة وعمل مستمرº وقليل من الناس من يفعل ذلك!

 

هذا كله يدعونا إلى القول: إننا معاشر الدعاة والمربين والإعلاميين قد نوقع الجيل الجديد في مغامرة خطيرة وغير محسوبة، حين ننمي فيه روح الفردية والاستقلال الشخصي، وحين نحثه دون هوادة على تحقيق أكبر النجاحات وإقامة أوسع العلاقات بواسطة سلوك أقرب السبل، تلك المغامرة الخطيرة تتمثل على المستوى النفسي في دفع الناشئة إلى رسم أهداف كبيرة، لا تساعدهم الإمكانات والوسائل المتاحة على بلوغها، مما يؤدي إلى أن يتحللوا من الضوابط الأخلاقية التي يجب على كل مسلم أن يقيد سلوكه بها، وتتمثل تلك المغامرة على المستوى الاجتماعي في نشر نوع من الأنانية المقيتة ونوع من التصدع الاجتماعي والأسريº لأن النجاح الواسع قد لا يتحقق إلا من خلال السحب من رصيد المصلحة العامة وحقوق الأهل والأرحام، وهذا ما حصل فعلاً لدى أمم كثيرة، وهذا ما بدأت بوادره لدى شباب اليوم بالظهور!

 

ليس أمامنا لمواجهة هذه الوضعية الآخذة في الانتشار سوى تقوية الوازع الداخلي، وتعزيز النظام الأخلاقي، وإعطاء تنمية حب الخير للناس، والالتزام بأوامر الشرع والوقوف عند نواهيه أولوية مطلقة.

إن القيم الإسلامية تحتاج إلى نوع من الاكتشاف الجديد من خلال وضعها في سياقات فكرية وتربوية وإصلاحية جديدة، ومن خلال إرساء تقاليد ثقافية، تعطي للاستقامة السلوكية أبعاداً جديدة.

إننا إذا حفَّزنا الأجيال الجديدة على النجاح والتفرد من غير تدعيم شامل للجانب الروحي والأخلاقي نكون كمن جاء إلى هيكل، فوضع له محرك طائرة وكوابح دراجة! ولست أبالغ إذا قلت: إن أمة الإسلام في أمسِّ الحاجة إلى ثورة روحية وأخلاقية جديدة حتى تستطيع النجاة من فخاخ الحضارة الحديثة، وحتى تستطيع المحافظة على خط سيرها الصحيح.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply