تركيز لا تكاثر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ألهاكم التكاثر بالأمس، فاتزنوا غدا..!!

كان في تدقيق الانتقاء ما يعصم من قواصم العفوية وتمكن العاصمة الثانية في تميع متناسب مع جهود المربين، بحيث يمكن إسماعهم جميعا الكلام الموجه، بتركيز مؤثر، ومنع التأثيرات الخارجية عنهم.

ولاشك في صعوبة هذا الحل الثاني.

ويقصد بالصعوبة: صعوبة (السيطرة) على الرغبات النفسية الأصيلة في كل إنسان في حب (الثراء) في كل شيء، مما أشار إليها القرآن الكريم بإجمال في قوله - تعالى -: { ألهاكم التكاثر }.

فالإنسان يحب الثراء الكمي العددي، في المال، والعلوم، والبنين، والأنصار، وفي كل شيء.

وهي نزعة أو غريزة لا يمكن السيطرة عليها إلا بالتربية العميقة.

وخطورة إهمالها تتأتى من أن إشباع الغريزة يؤدي إلى حصول (النشوة) في الإنسان، والنشوة حالة من حالات النفس الإنسانية تؤثر على العقل تأثيرا سلبيات، فتجعله في ركود.

 

إن في النشوة ضد الخوف، وفي النفس الإنسانية يقترن بالاطمئنان مع النشوة، والحذر مع الخوف.

والمعروف أن العقل أقصى ما يمكن تحفزا واشتغالا وشحذا في حالة الحذر.

ومن تصاحب النشوة اندفاعات غير مدروسة، يشترك فيها الجميع، القادة وتلاميذهم، لأن الإحساس بالثراء يولد الاطمئنان وإيحاءات الضمان.

إن هذا التقرير يؤكد ما قلناه من صعوبة المعركة التي تخوضها الدعوة، فان ميدان المعركة هو النفس الإنسانية بكل تعقيداتها ومتناقضاتها.

أنت لا تتعامل مع أحجار صلدة، ولا مع أصحاب طهر ملائكي.

أنت تعيش وتتعامل مع نفس إنسانية، فيها الغرائز كغرائز حب البقاء، وحب التكاثر والثراء، وإشباع الشهوات الجنسية. وفيها النزعات:نزعات الثأر، والحذر، والدفاع عن العقيدة وحب شيوعها.

 

والمجتمع الذي أمامك هو مجموعة هذه الغرائز والنزعات و الميول والرغبات، فان لم تعرف المداخل والأبواب التي تدخل منها إلى هذا المجموع من الغرائز والنزعات المسمى (المجتمع) فان الفشل يصيبك حتما، وإذا غالطت نفسك وتجاهلت هذه الغرائز والنزعات والميول والرغبات، فلن ضير وجودها شيء، وأنت تضار.

ستبقىº لأنها وجدت بإذن الله لتبقى، أما أنت فستزول وتخونك حساباتك وتقديراتك لأنك خالفت الفطرة.

إن النفس الإنسانية هي ميدان كل هذه الانقلابات الاجتماعية والسياسية الكثيرة المتواصلة التي يحدثنا عنها التاريخ القديم والحديث.

اندفاع وراء إشباع البطون، أو إشباع الشهوة الجنسية، أو طلب الترف.

اندفاع ثأر ممن سلبها أرضها أو نسائها.

اندفاع وراء إشباع عقيدة اعتقدتها، أو محاربة من يخالف هذه العقيدة، بالمفهوم الواسع للعقيدة، من مثل وقيم، حقة أو باطلة.

إنها اندفاعات مادية ومعنوية، قد تجتمع وقد تنفرد.

 

هؤلاء هم البشر:

إن بعضهم قد وجد في نفسه المقدرة على توجيه الآخرين نحو قسم من هذه التصرفات التي تساعد عليها الغرائز والفطر، فسمينا عمله هذا (تربية).

أن معارك السياسة والحروب صورة لمعارك النفس.

 

وإذنº فان معركتنا معركة تربوية، أي أنها تقوى وتشتد كلما تعمقت التربية وأتقن المربي عمله، وتخبو جذوتها كلما فترت التربية وكانت سطحية.

أي أن الجهود التربوية لعدد محدود من القادة المربين إذا تركت على التلاميذ فإنها تكون أعمق تأثيرا فيهم كلما قل عددهم، بتناسب طردي، وتفتر ويقل تأثيرها كلما زاد عددهم.

ومع هبوط كمية التأثير يحصل الاندفاع العفوي غير الهادف، ثم القاسمة والمصرع.

وإذنº فان من مصالح معركتنا أن لا يندفع الصنف القيادي المتولي لعملية التربية في تجميع عدد من التلاميذ أكبر مما يكفي له جهودهم التربوية.

وهذا هو الحل الثاني للوقاية مصارع العفوية يمليه تحليل الظاهرة التربوية.

ولقد شهد تاريخ الحركة الإسلامية بالأمس القريب تكاثرا بالعدد على حساب النوعية أرهق وألهى، واجبر دعاة اليوم على الاتعاظ، وما اتزان التوسع إلا وصية الغد.

 

نقول: إنها وصية الغد، لما رأينا من نسيانها، و إلا فإنها الوصية القديمة للإمام البنا - رحمه الله - شدد عليها منذ عام 1938 في انعقاد المؤتمر الخامس، في صورة توضيح لأصناف الرجال أمام أعباء العمل، وعدم إغناء الخيال من الصواب شيئاً، وإنما هي (الصفوة) فحسب _ كما سماها الإمام البنا واستعارها السيد من بعد  تحمل أعباء الجهاد.

 

يقول: \" أريد أن أكون معكم صريحاُ للغاية، فلم تعد تنفعنا إلا المصارحة: إن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ.

يسهل على كثير أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالا باللسان، وأن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن قليلين من هذا يثبتون عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيعون ان يعملوا، ولكن قليلا منهم يقدرون على حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل العنيف، وهؤلاء المجاهدون، هم الصفوة القلائل من الأنصار، قد يخطئون الطريق ولا يصبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله، وفي قصة طاغوت بيان لما أقول.

فاعدوا أنفسكم، واقبلوا عليها بالتربية الصحيحة، والاختبار الدقيق، وامتحونها بالعمل، العمل القوي البغيض لديها، الشاق عليها  وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها \".

 

وورث سيد - رحمه الله - هذا الفقه، فجعله قلقا قبيل وفاته إزاء ما يرى في السودان من التوسع وامتلأ الشوارع بمظاهرات المسلمين، فأوصى من زاره من الإسلام في السودان فقال: \" يجب ألا يشغلكم إقبال الجماهير عن تنظيم صفوفكم الداخلية وإعداد رجال يواجهون الشدائد ويثبتون \".

 

والحقيقة إن أهمية الصف الداخلي المتين لا تنحصر في معطيات صفته التنظيمية وسهولة استغلال طاقاته المنسقة، بل في تحقيقه (المجتمع التربوي) الذي يحتضن الجديد المتربي ويربه زيادة المناظر الإسلامية ويحجب عنه رؤية الجاهلية والجاهليين وسماع أقوالهم فيبعد عن التأثر بتربية أخرى غير إسلامية، ولمثل هذا أوجب الغزالي - رحمه الله - المسارعة إلى كبت الفسق وحجبه لئلا يؤثر منظره في نفوس المسلمين، وقال: \" أن مشاهدة الفسق تهون أمر المعصية على القلب، وتبطل نفرة القلب عنها \" [إحياء علوم الدين للغزالي].

 

وهذا يعني أيضاً أن بقاء بعض الفسق  بمعناه الشرعي  عالقا بالأشخاص الذين نجمعهم، لعجز كفاياتنا وطاقتنا التربوية التوجيهية عن إزالته عنهم وتحويلهم عنه لكثرة عددهم، سوف يؤدي إلى احتمال سريان عداوة إلى العناصر النظيفة، لما في العيش الجماعي من المشاهدة التي تؤدي إلى التقليد.

 

وعلى ذلكº فإن جولات الداعية الضرورية بين الجماهير العامة مثلما تؤدي إلى تربيته عمليا والى إغناء الدعوة بالعناصر الجديدة التي يكشفها، فأنها تؤدي أيضاً إلى احتمال تهوين أمر المعية على قلبه إذا انقطع إليهم انقطاعا طويلا، لكثرة المعاصي في حياة العامة، فوجب تردده على مجتمع الدعاة الصافي ليرى من مناظر الإيمان ما يضاد مناظر الفسق، ويكون جائلا بين هذا المجتمع العام، وبين هذا المجتمع الخاص الذي يرفق قلبه أن أخبره الأول، وهذا ما يؤدي بالتالي إلى الحرص على نقاوة هذا المجتمع الخاص ليؤدي مهمته التربوية هذه لكل داعية متجول بين العامة حين يفيء إليه، والنقاوة لا تحصل إلا باتزان التوسع.

فكلما كان التوسع السريع يستهلك الطاقة الحاضرة، فأنه يضعف الناتج القديم.

 

نجاح يتأخر، لا جهد يهدر:

وتضيق الأرض بمتحمسة الدعاة حين نلح في بيات اتزان التوسع في وقت طال فيه المسير، ويرون أن هناك ثمة فشل يصيب الدعوة أن تخلت عن سباق العدد.

 

ولا ننكر أن أخطاء الماضي قد حرمت الدعوة في أماكن متعددة من العالم الإسلامي من فرص توسع وانبثاث مأمون في محيط مستعد لتقبل الكلمة، وأن أحزاب الضلال في محيط مستعد لتقبل الكلمة، وإن أحزاب الضلال قد استغلت برود دعاة الإسلام فتقدمت بمراحل عليهم، ولكن الخطأ لا يستدرك بمثله، وتقييم فشل الدعوة ونجاحها في حقبة معينة لا يعتمد على إحصاء من استطاعت نقلهم من محيط الجاهلية إلى صفوفها، ذلك أن الدعوة طالما كانت سبباً في هداية آلاف من الشباب وعصمتهم من الفجور والزيغ وإن لم يدخلوا صفوفها، لأسباب مختلفة، وهذا في ميزان الإسلام عظيم. وطالما كانت الدعوة كالواحد في وسط الصحراء الموحشة المقفرة حين تأوي إليها جموع المسافرين فينعمون بظلها،وأنسوا بأهلها، وأن أقعدهم الترغيب والترهيب عن مواصلة السير معها.

 

وكم نقلت الدعوة شاكاً إلى اليقين، ومؤمنا جاهلا إلى العلم، وهذا في الميزان عظيم.

 

وكم أوضحت الدعوة من شبهة، وردت من تهمة، وأشادت بمناقب مظلوم، وكل ذلك في الميزان عظيم.

 

وأذن، فإننا يجب أن لا ننظر بالمنظار القائم الذي يولد اليأس في نفوس العاملين، فإن الدعوة لم تفشل ينتظرهم جني ثمار كثيرة زرعوا بذورها بالأمس.

 

إن أناسا كثيرين، بتأثير عمل الدعاة الماضي والحاضر، تحتدم في نفوسهم معاني الإيمان والجاهلية،وهم الآن في صراع نفسي داخلي عنيف غير منظور أيؤمنون ويقرون بما يقول دعاة الإسلام أم يبقون على ما هم عليه؟ وهؤلاء مصيرهم إلى الإيمان حتما حين يتضح الحق أمامهم اتضاحاً كافياُ، في حادثة تهزهم هزاً، وتخضهم خضعاً، فيتمحضون، وينخرق حجاب الران على القلب، فيصل إليه النور. تماما كالإسلام المفاجئ المأثور عن الصحابة - رضي الله عنهم - ، كعمر حين دنا من الصفا، فسمع أخته تتلو القرآن، فصفا، أو حمزة حين رجع من الصيد، فسمع كلام المؤامرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فآمن وكسر القيد.

 

هل يقال إن كل أسباب إيمانهم في نفوسهم، وكان هناك صراع نفسي ظل يتنامى حتى فاض سهل الخير في تلك اللحظة؟

 

ولئن حرصنا اليوم على عمق التربية، والاقتصار على الصفوة،واتزان التوسع، فلتغطية حاجة جحافل أهل الاحتدام هؤلاء يكون هذا الحرص، وإنهم لفي سير إلينا، وعما قريب يكون الرسول، والحادثة الهازة الخاضعة خبيئة عند الله، يرحم الله بها الصابرين، ومن لا يؤمن بمثلها بحاجة إلى نظر في السيرة والتاريخ جديد.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply