في مدرسة الفاروق .. قف وتتلمذ


 

بسم الله الرحمن الرحيم

روي الإمام الطبري عن الأسود بن أبي يزيد قال: كان الوفد إذا قدموا على عمر بن الخطاب سألهم عن أميرهم فيقولون خيراً، فيقول: هل يعود مرضاكم؟ فيقولون: نعم، فيقول: هل يعود العبد؟ فيقولون: نعم، فيقول: كيف صنيعته بالضعيف، هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصلة منها: لا، عزله.

 

وروى كذلك الإمام الطبري أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب يوماً فقال: \" أيها الناس إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم \" جلودكم \" ولا ليأخذوا أعشاركم \" أي أموالكم\" ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليعرفه إلىّ فوالذي نفس عمر بيده لأقصنّه منه \".

 

وأخيراً ذكر الإمام الطبري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: \" لئن عشت إن شاء الله - تعالى - لأسير في الرعية حولاً، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، والله لنعم الحول هذا \".

 

يقول عبد الله بن عتبة - رحمه الله -: سمعتُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول:

\" إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه و سلم - ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمنّاه وقرّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه، ولم نُصدّقه، وإن قال: إن سريرته حسنة \". (خبر صحيح أخرجه البخاري).

 

إن الذي نطق بهذه الكلمات كان بشراً ولكنه لم يكن ككل البشر، وإنما كان نابغة من النوابغ، كان مؤيداً في آرائه من السماوات العلى، كان الشيطان يخشى أن يسلك الفج الذي يسلكه هذا الموفق، كان قائداً فذاً، وصحابياً جليلاً، إنه الفاروق عمر - رضي الله عنه -.

 

ومن يجاري أبا حفص وسيرته

أم من يحاول للفاروق تشبيها

 

لقد فتح الفاروق الدنيا، وأقام العدل، واضطر الولاة أن يستقيموا على الصواب بسبب قيادته وإدارته الحكيمة، \" بعد مراقبتهم الله - عز وجل - وخشيتهم له \".

 

فعن زيد بن وهب - رحمه الله - أنه قال:

خرج عمر - رضي الله عنه - ويداه في أذنيه، وهو يقول: يا لبيكاه! يا لبيكاه!

 

قال الناس: ماله؟!

 

قال: جاءه بريد من بعض أمرائه: أن نهراً حال بينهم وبين العبور، ولم يجدوا سفُناً، فقال أميرهم: اطلبوا لنا رجلاً، يعلم غور الماء.

 

فأتى بشيخ، فقال: إني أخاف البرد، وذلك في البرد، فأكرهه، فأدخله، فلم يلبثه البرد، فجعل ينادي: يا عمراه.. يا عمراه.. فغرق.

 

فكتب إليه فأقبل فمكث أياماً مُعرضاً عنه، وكان إذا وَجَدَ على أحدٍ, منهم فعل به ذلك، ثم قال:

 ما فعل الرجل الذي قتلته؟!

 

قال يا أمير المؤمنين، ما تعمدتُ قتله، لم نجد شيئاً نعبر فيه، وأردنا أن نعلم غور الماء، ففتحنا كذا وكذا، وأصبنا كذا وكذا.

 

فقال عمر - رضي الله عنه -: لرجل مسلم أحب إليّ من كل شيء جئتَ به، لولا أن تكون سُنّة!! لضربت عنقك، اذهب فأعط أهله ديته، وأخرج فلا أراك\". (خبر صحيح، أخرجه البيهقي).

 

عمد عمر بن الخطاب إلى الرقابة الدقيقة، وسعى في النزول إلى الميدان، ولم يجلس في برج عاجي ويدير مملكته من ذلك المكان، فالحقيقة لا تستبين إلا بالمخالطة والمعاشرة والاحتكاك.

 

إن كل عمل إسلامي تنتفي فيه الرقابة وتنعدم فيه المتابعة يتحول إلى عمل دروشي كثير الأخطاء والنواقص، فطبيعة البشر أنهم ينسون تارة، ويتكاسلون تارة، ويملون تارة أخرى.

 

كما أن هناك قصوراً عند كل إنسان، قد يظهر هذا القصور جلياً في طبيعة ممارسته لعمله، ومن ثم فالمراقبة والمتابعة حافز مهم لجميع العاملين وخاصة لأولئك الذين رضوا لأنفسهم أن يكونوا خدماً لدين الله، تأبي نفوسهم إلا أن يتسابقوا إلى الكمال.

 

إن عمر بن الخطاب لم يكتفِ بالرقابة الذاتية، ولم يقل أن هؤلاء صحابة وتابعون عندهم من الإيمان والورع والتقوى الشيء الكثير، ولم يَكِلَهم إلى إيمانهم وخشيتهم وورعهم، ولكنه أخذ في محاسبتهم ومراقبتهم ذلك لأنه استشعر مساءلة الله له يوم القيامة، فأبى أن يضيع الرعية، ويضيع العمل الإسلامي من أجل سواد عيون مخلوق حتى لو كان صحابياً أو تابعياً \" عليهم رضوان الله جميعاً \".

 

إن الرقابة لا تنافي الثقة، ولكنها تدعمها وتنخل الصفوف، فيظهر المحسن فيعان ويظهر المسيء فيوجّه ويسدّد. كما أن بالمتابعة الدقيقة وبالاحتكاك يستطيع الرئيس أن يعرف قدرات ومواهب مرؤوسيه، فيتقدم الصفوف من يستحق ذلك ويتأخر من لا يحسن إلا الثرثرة أو المجاملة أو طول اللسان.

 

ولكن بقي أمر مهم وهو أن من أكبر الأخطاء أن يظن العاملون والمصلحون أن الرقابة تنحصر في طريق واحد وباتجاه واحد وهو من أعلى إلى أسفل، في حين أن الرقابة هي طريق مزدوج، سهامه متجهة من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى، فلا كبير على الرقابة ولا يوجد في شرعنا من لا يُسأل عما يفعل، فالكل محاسب، والكل متابع، والكل مراقب.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply