التغافل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

التغافل لغةً: هو تعمد الغفلة، و أرى من نفسه أنه غافلُ و ليس به غفلة

التغافل: وهو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرماً وترفعاً عن سفاسف الأمور.

 

النبي - صلى الله عليه وسلم - و التغافل:

قال - تعالى -: {عَرَّفَ بَعضَهُ وَأَعرَضَ عَن بَعضٍ,} أي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة معاتباً لها، ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً، فإِن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب.

 

 قال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط.

 وقال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام.

 

 واعلم أن من الدهاء كل الدهاء التغافل عن كل ذنب لا تستطاع العقوبة عليه، ومن عداوة كل عدو لا تقدر على الانتصار منه. فأما التغافل عن ما لا يعني فهو العقل. وقد قال الحكماء: لا يكون المرء عاقلاً حتى يكون عما لا يعنيه غافلاً.

 

النبي صلى الله عليه وسيلم في الطائف:

لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله - تعالى - لا يشرك به شيئا وعند ذلك قال له ملك الجبال أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم. و أشار صاحب الهمزية بقوله:

 جهلت قومه عليه فأغضى *** وأخو الحلم دأبه الإغضاء

وسع العالمين علما وحلما ***  فهو بحر لم تعيه الأعباء

 

أي جهلت قومه عليه فآذوه أذية لا تطاق فأغضى عنهم حلما وأخو الحلم أي وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل فإن علمه وسع لوم العالمين ووسع حلمه حلمهم فهو واسع العلم والحلم لم تعيه الأعباء أي لم تتعبه الأثقال.

 

تأول الهفوات من أخلاق ذوي الفضل

حكي عن بنت عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف – وكان أجود قريش في زمانه- قالت: يا طلحة ما رأيت قوما ألأمَ من إخوانك! قال: ولم ذاك؟ قالت: أراهم إذا أيسرتَ وكثر مالك زاروك ولزموك، وإذا أعسرت تركوك! قال: هذا والله من كرمهمº يأتوننا في حال القوة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عنهم.

 

فانظر كيف تأوَّل بكرمه هذا التأويل، وفسر بنبيل أخلاقه هذا التفسير، حتى جعل قبيح فعلهم حسنا وظاهر غدرهم وفاءا. وهذا محض الكرم ولباب الفضل وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأولوا الهفوات ويمحوا الزلات من إخوانهم وأرحامهم وأصهارهم، انه تغافل مع فطنه، وتآلف صادر عن وفاء. وعلاقات الرحم ووشائج القربى لا تستقيم ولا تتوثق إلا بالتغافل، فمن شدد نفَّر، ومن تغاضى تآلف، والشرف في التغافل، وسيد قومه المتغابي.

 

صلاح الدين و التغافل:

قال ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي:\'وكان صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه. وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسرموز- يعني:بنعل- فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسهº ليتغافل عنها\'.

 

التغافل و المشاكل الزوجية:

وأما المشاكل العابرة فهي المشاكل التي يفتعلها أحد الزوجين بشكل استثنائي عابر , وهي ليست من صفاته الدائمة , وإنما كما يقال: لكل عالم هفوة , ولكل جواد كبوة.

 

ومثالنا على ذلك كأن يستهزئ الزوج بزوجته وليس من عادته الاستهزاء , أو أن يتحدث عن بعض عيوبها أمام أهلها وليس من عادته فعل ذلك , وهذه التصرفات يكفي في علاجها الإشارة فقط , ولا ينبغي لأي من الزوجين أن يعاتب الأخر ويهجره من أجل هذه التصرفات وذلك باعتبار أنها عابرة وليست دائمة والأصل في المشاكل العابرة إتباع أسلوب التغافل معها.

 

من فقه الحياة الزوجية التغاضي عن دقيق المحاسبة:

ولكلٍ, من الزوجين على الآخر حق، وربما كانت الدقة في المراقبة والشدة في المحاسبة من بواعث الاضطراب وعدم الاستقرار، وفي التغافل أحياناً، والمرونة أحياناً كفالة باستدامة السعادة، وبقاء المعاشرة الجميلة، كل ذلك ضمن الضوابط الشرعية والتوصيات الأخلاقية

 

التغافل وتربية الأولاد:

يجب التغافل عن بعض هفوات التلاميذ وعدم التعليق على كل حركة تصدر عنه بل لا بد أن ننبههم بروح الشفقة والرحمة حتى لا نذل نفسه ونحطم شخصيته أو ندفعه لاكتساب عادات خلقية سيئة كالعناد والكذب، ولنتمثل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصحابي الذي كبر للصلاة من أول المسجد وركع وظل يمشي حتى وصل الصف فنبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - على خطئه بلطف حيث قال: ((زادك الله حرصا ولا تعد)).

من أنماط التربية، التغافل -لا الغفلة- عن بعض ما يصدر من الأولاد من عبث أو طيش وهو مبدأ يأخذ به العقلاء في تعاملهم مع أولادهم ومع الناس عموماº فالعاقل لا يستقصي، ولا يشعر من تحت يده أو من يتعامل معهم بأنه يعلم عنهم كل صغيرة وكبيرةº لأنه إذا استقصى، وأشعرهم بأنه يعلم عنهم كل شيء ذهبت هيبته من قلوبهم، ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي،ثم إن تغافله يعينه على تقديم النصح بقالب غير مباشر، من باب: إياك أعني واسمعي يا جاره، ومن باب: ما بال أقوام. وربما كان ذلك أبلغ وأوقع.

 

من أخطاء المُعلم:

محاولة ضبط الطفل أكثر من اللازم: بحيث لا تتاح له الفرصة للعب والمرح والحركة. وهذا يتعارض مع طبيعة الطفل وقد يضر بصحته إذ أن هذا اللعب مهم لنمو الطفل بصورة جيدة إذ أن (اللعب في المكان الطلق الفسيح من أهم الأمور التي تساعد على نمو جسم الطفل وحفظ صحته) فينبغي أن يتجنب الأب زجر الأولاد عند مبالغتهم في اللعب بالتراب أثناء النزهة على شاطئ البحر أو في الصحراء. وذلك لأن الوقت وقت ترفيه ولعب وليس وقت انضباط، وليس ثمة وقت ينطق فيه الأولاد بلا قيود إلا في مثل هذه النزهات البريئة، فلابد من التغافل عنهم بعض الشيء.

 

التغافل على أخطاء قليلة حكمةٌ تربويَّة:

إذا ظهر على الصبي خُلقٌ جميل وفعلٌ محمود، فينبغي أن يكرَّم عليه ـ يجب أن تثني على ابنك إذا رأيت منه خُلقاً حميداًº أمانةً، وفاءً، صدقاً ـ ويجازى عليه لما يفرح به، وأن يُمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرَّةً واحدة فينبغي أن يتغافل عنه. جاء في وصية الغزالي: فإذا خالف ذلك في بعض الأحوال مرَّةً واحدة فينبغي أن نتغافل عنه ـ وأن لا نهتك ستره، وألا نكاشفه، أما إذا عاد ثانيةً يُعاتب عتاباً رقيقاً فيما بينك وبينه.

 

لمن التغافل

مسامحة أهل الاستئثار والاستغنام والتغافل لهم ليس مروءة ولا فضيلة بل هو مهانة وضعف وترضية لهم على التمادي على ذلك الخلق المذموم وتغبيط لهم به وعون لهم على ذلك الفعل السوء.

 

 وإنما تكون المسامحة مروءة لأهل الإنصاف المبادرين إلى الإنصاف والإيثار فهؤلاء فرض على أهل الفضل أن يعاملوهم بمثل ذلك لا سيما إن كانت حاجتهم أمس وضرورتهم أشد.

 

التغافل شيمة أهل الدين:

عن أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم - إياكم و الظن فإن الظن أكذب الحديث. متفق عليه

وسوء الظن يدعو إلى التحسس و التجسس. فعن أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم - لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا و لا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا. متفق عليه.

 

التجسس في تطلع الأخبار و التحسس بالمراقبة بالعين فستر العيوب و التجاهل و التغافل عنها شيمة أهل الدين ويكفيك تنبيها على كمال الرتبة في ستر القبيح و إظهار الجميل أن الله - تعالى - وصف به في الدعاء فقيل يا من أظهر الجميل وستر القبيح و المرضى عند الله من تخلق بأخلاقه فإنه ستار العيوب و غفار الذنوب ومتجاوز عن العبيد فكيف لا تتجاوز أنت عمن هو مثلك أو فوقك.

 

وقد قال عيسى - عليه السلام - للحواريين كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائما وقد كشف الريح ثوبه عنه قالوا نستره ونغطيه قال بل تكشفون عورته قالوا سبحان الله من يفعل هذا فقال أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه فيزيد عليها ويشيعها بأعظم منها.

قال عمرو بن عثمان المكي: المروءة التغافل عن زلل الإخوان.

 

عن أبي بكر بن أبي الدنيا أن محمد بن عبد الله الخزاعي قال: سمعت عثمان بن زائدة يقول:

 العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل. قال: فحدثت به أحمد بن حنبل فقال: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل.

قال الأعمش: التغافل يطفئ شراً كثيراً.

عن أبي بكر بن عياش قال: قال كسرى لوزيره ما الكرم؟ قال: التغافل عن الزلل..\"

 

و في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم يترتب عليه مفسدة. قال الشافعي: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل.

 

قال جعفر بن محمد الصادق: (عظموا أقدراكم بالتغافل).

 

قال المهاجري: (قال أعرابي لرجل: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس لأن طالبها متهم بقدر ما فيه منها).

 

وكما قال الإمام أحمد بن حنبل\"تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل\"

 

 والحسن البصري يقول: ما زال التغافل من فعل الكرام\"..

 

وقال أكثم بن صَيفيّ: الكَرم حُسن الفِطنة وحُسنُ التغافل واللّؤم سوءُ الفطنة وسُوء التغافل ولم تَرَ أهلَ النٌّهَى والمنسوبِين إلى الحِجَا والتٌّقَى مَدَحوا الحلماءَ بشدة العقاب وقد ذكروهم بحُسن الصَّفح وبكثرة الاغتفار وشدّة التغافُل وبعد فالمُعَاقِب مستعدُّ لعداوة أولياءِ المذنِب والعافي مُستَدعٍ, لشكرهم آمِنٌ من مكافأتهم أيّامَ قدرتهم ولأن يُثنَى عليك باتِّساع الصدر خيرٌ من أن يُثنى عليك بضِيق الصَّدر على أنّ إقالتك عثرةَ عبادِ اللّه موجبٌ لإقالتك عَثرَتَكَ من ربِّ عباد اللّه وعفوُك عنه موصولٌ بعفو اللّه عنك وعقابُك لهم موصولٌ بعقاب اللّه لك\".

 

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply