فوائد الشدائد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللهº فلا مضل له، ومن يضللº فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد،،،

فإن الله - سبحانه و تعالى - يبتلي عباده المؤمنين ليظهر ما في نفوسهم من الخير، ويرفع درجاتهم عنده، ويكفر عنهم سيئاتهم، وهذه الشدائد التي تعتري المسلم والمسلمين هي خير لهم في الحقيقة: [عَجَبًا لِأَمرِ المُؤمِنِ إِنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ خَيرٌ وَلَيسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ, إِلَّا لِلمُؤمِنِ إِن أَصَابَتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ وَإِن أَصَابَتهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيرًا لَهُ]رواه مسلم.

 

وعندما تنزل الشدائد بالمسلمين، فإن الله ينزل من المعونة على قدر البلاءº كما قال - عليه الصلاة والسلام -: [إِنَّ المَعُونَةَ تَأتِي مِن الله عَلَى قَدرِ المَؤُونَةِ وَإِنَّ الصَّبرَ يَأتَي مِن الله عَلَى قَدرِ البَلَاءِ] رواه الرافعي. وفي رواية: [وَإِنَّ الصَّبرَ يَأتَي مِن الله عَلَى قَدرِ المُصِيبَةِ] رواه الحكيم الترمذي والبزار والبيهقي في الشعب. وتدور على المسلمين رحى الحروب، وكيد الأعداء، و يتجمع عليهم معسكر الشر، ويكون في ذلك شدة ومصائب تنزل، ولكن هذه الشدائد لا تخلو من فوائد ومن ذلك:

 

انتظار الفرج، وترقب انكشاف الغمة من الله - تعالى -: قال - تعالى -:{ فَإِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا[5]إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا[6]}[سورة الشرح]. وهذا الترقب والانتظار لابد أن يكون مصحوبًا من المسلمين ببذل الأسباب لكشف البلية، و أخذ ما يمكن أخذه لدفع المصيبة، و تخفيف آثارها، و لكن ينبغي ألا يغيب عن بال المسلمين أن انتظار الفرج عبادة عظيمة و باب أجر عظيم من الله.

 

وهذه الشدائد تدفع العباد للتعاون على البر و التقوى:

فيظهر من صور الإيثار ما يظهر، ويظهر أنواع من بذل المعروف لم تكن معروفة، لكن الشدة التي تجمعهم في المصيبة تُقَرِّبُ بين نفوسهم، وتظهر روح الأخوة بينهم، بل تزيل كثيرًا من العداوات الشخصية التي كانت في نفوسهم، و تجعلهم متحدين أمام الخطر والعدو الذي نزل شره، و هكذا يتوحد المسلمون في المصيبة ما لا يتوحدون في غيرها، و يظهر من آثار البذل و التعاون و الإيثار ما لم يكن يظهر من ذي قبل، و قد ظهر في المسلمين من الخير من حفر الخندق، وهذه القوة العجيبة التي عملوا بها يدفعهم في ذلك الإيمان و نصرة دين الإسلام، والدفاع عن حريم المسلمين، ومدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحفروا ذلك الخندق في أيام معدودات حفروه بالرغم من البرد القارس، والمساحة الطويلة التي شقوا فيها ذلك الخندق كيلومترات بعمق يفترض أن لا تعبره الخيل وتقفز من فوقه وعرض، وهكذا كان ذلك الخندق بين الحرتين.

 

والشدائد تجعل الناس يتقاسمون فيما بينهم أموالهم:

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [إِنَّ الأَشعَرِيِّينَ – وهم قوم أتوا مسلمين من اليمن – إِذَا أَرمَلُوا فِي الغَزوِ – أي فني زادهم وكان الواحد قد التصق بالرمل من القلة – أَو قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِم بِالمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِندَهُم فِي ثَوبٍ, وَاحِدٍ, – كل المدخرات تخرج وتجمع – ثُمَّ اقتَسَمُوهُ بَينَهُم فِي إِنَاءٍ, وَاحِدٍ, بِالسَّوِيَّةِ فَهُم مِنِّي وَأَنَا مِنهُم] رواه البخاري ومسلم. وهكذا المواساة في الشدائد، والإيثار في أوقات المحنة.

 

في الشدائد يَفزَع الناس إلى الله، و يؤوبوا إليه، و يتوبوا إليه، و يتضرعوا إليه:(فَلَولا إِذ جَاءَهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا...[43]) [سورة الأنعام].

 

و لذلك حكت لنا كتب التاريخ الإسلامي عند خروج النار بقرب المدينة في الحجاز- وهي من أشراط الساعة- ورأى الناس بِبُصرَى الشام بعيدًا عن المدينة أعناق إبلهم على ضوء نار الحجاز، وكانت تُحرِقُ الحجارة وتذيبها، وحصل زلزال عظيم، وفزع الناس، ودخلوا كلهم الحرم والمسجد النبوي، واستغفروا وأنابوا إلى الله، ولهجت الألسن بالدعاء، وأمير المدينة أعتق جميع مماليكه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة.

 

والشاهد:

كيف أن الناس فزعوا إلى ذكر الله و دعائه، و دخلوا الحرم، واجتمعوا فيه يلهجون إلى الله بلسان المضطر أن يذهب عنهم الضر.

 

وكذلك من الآثار العظيمة بالنسبة للشدائد: أنها تربي جيلًا قويًا، قادرًا على المواجهة بعد أن تُذهِب جيلًا فيه الميوعة والانحلال والمهانة: فلما رفض بنو إسرائيل دخول الأرض المقدسة، وقالوا بكل و قاحة:{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذهَب أَنتَ وَرَبٌّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[24]قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَملِكُ إِلَّا نَفسِي وَأَخِي فَافرُق بَينَنَا وَبَينَ القَومِ الفَاسِقِينَ[25]قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم أَربَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرضِ فَلَا تَأسَ عَلَى القَومِ الفَاسِقِينَ[26]}[سورة المائدة]. و لذلك مكث بنو إسرائيل في صحراء التيه يخرجون من الصباح للبحث عن مخرج و منفذ فلا يأتي عليهم غروب الشمس إلا و يجدون أنفسهم في ذات المكان الذي بدؤوا منه البحث أربعين سنة يتيهون في الأرض، لا يجدون مسلكًا يخرجون منه، و لا يهتدون إلى طريق يخرجهم من ذلك التيه، وكان من الحكم في هذه الشدة التي نزلت بهم: أن يذهب ذلك الجيل يموت، الذي رفض دخول الأرض المقدسة، وتقاعس عن قتال الجبارين، ذلك الجيل الذي كان تربى في ظل فرعون على الذل والمهانة، والاستعباد، والطغيان، لم يكن يصلح للفتح العظيمº ولذلك فسدت فطرتهم، فشاء الله أن يبقى في هذه الصحراء ليموت فيها، ويخرج جيل جديد، وأربعين سنة كفيلة بذهاب جيل ومجيء جيل آخر، قد تربى في شدة الصحراء، و هذه الظروف الصعبةº ليكون فيما بعد أهلاً لأن يدخل الأرض المقدسة، عاشوا في جو الخشونة، صلب عودهم، و جاءوا على غير النموذج الذي كان عليه آباؤهم، فكانوا أهلاً للفتح بأمر الله.

 

فمن فوائد الشدائد:

إذا أنها تربي جيلًا جديدًا، جيل المحنة المؤهل للنصرº لأن الجيل الذي قبله أفسده الذل، والاستعباد، و لربما يكون في بعض البلدان، والأماكن، والأزمان، أفسدته الميوعة و الانحلال، والمعاصي والترف، فلا يكون أهلاً للنصر، فيبتلي الله المسلمين بالشدائد، قد تطول سنين لكي تذهب آثار الميوعة والانحلال، فيخرج بعد ذلك خلقًا آخر، أو يكون من بعده جيل آخر يكتب الله الفتح على أيديهم.

 

 ومن فوائد الشدائد:

التمحيص، وظهور الحقائق، وانكشاف البواطن: تمييز المسلم عن المنافق، والمنافق عن المسلم:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ...[179]{[سورة آل عمران].

 

جزى الله الشدائد كل خير *** و إن كانت تغصصني بريقي

 

وما شكري لها إلا لأني *** عرفت بها عدوي من صديقي

 

الشدائد تظهر المنافقين: من هم الذين يرتمون في أحضان الأعداء، من الذين يوالون أعداء الله، من الذين يتعاونون معهم ويشاركونهم، ويكونون معهم على باطلهم، من هم هؤلاء؟

 

ينكشف المنافقون الذين كانوا يسترون عوراتهم بأمور واهية تنطلي على كثير من المسلمين، فالآن آن الأوان من الله لينكشف الباطل، وتسقط تلك الأوراق التي كانت تستر عورات المنافقين، فيظهرون على حقيقتهم، و تعرف الأمة من أين أتت، و من أين كانت مصيبتها.

 

ومن فوائد الشدائد التي حصلت في تاريخ المسلمين: أنها أبرزت طاقات، ومواهب وقدرات لم تكن ربما موجودة من قبل: لما غزا الصليبيون بلاد الشام ظهر في المسلمين من أذكياء الشباب من اخترع أبراجاً من المنجنيقات العظيمة، فيها أخلاطٌ من الزِّفت المشتعل، ومواد أخرى قد اخترعتها أيدي أولئك المسلمين، وابتكرتها عقولهم، يرمون بها الفرنجة، فكانت حريقًا عليهم ابتُكِرت من قبل تلك العقول. وكانت بعض الوسائل تثير الدهشة و الإعجاب، ومن ذلك: أن مجاهدًا من المسلمين قور بطيخة خضراء، وادخل رأسه فيها، ثم غطس في الماء إلى أن اقترب من معسكر الصليبيين، فظنه بعضهم بطيخة عائمة في الماء، فلما نزل لأخذها خطفه الفدائي المسلم، و جره وأتى به أسيرًا، و تعددت مواكب أسرى الصليبيين في الشوارع في ذلك الوقت على نحو زاد من حماسة الناس، ورفع معنويات المقاتلين إلى السماء.

 

وهكذا تتكرر القضية في هذه الأيام على أرض فلسطين في أيام المحنة والقتل، ونزول الأمور العصيبة، والمذابح الكبيرة، وهدم الديار، ومحاربة الأرزاق، و تجريف الأشجار، لم يرحموا كبيرًا ولا صغيرًا ولا امرأة حاملًا ولا غير ذلك.

 

فظهر في المسلمين من عمل بعض أنواع من الصواريخ كصواريخ القسام وغيرها التي ابتكرتها أيدي المسلمين في فلسطين، و عملوا تلك من مواد بسيطة كما قالوا، مصنعة من مواد أولية بحيث تستطيع النساء في البيت أن تحضرها كما قال بعض المجاهدين في فلسطين، و تجارب تقوم على أساس الدفع الذاتي، لم تكن هذه الصواريخ لتظهر على بساطتها إلا في أجواء المحنة و الشدائد.

 

وإن من فوائد الشدائد: أن تظهر العبادة مِن قِبَل المخلصين في وقت المحنة: قال - صلى الله عليه وسلم -: [العِبَادَةُ فِي الهَرجِ كَهِجرَةٍ, إِلَيَّ] رواه مسلم. ومعنى الهرج: الفتنة واختلاط أمور الناس، الفوضى العارمة، في الفتن يقوم أناس مع قلتهم يعبدون الله في ذلك الجو ولا ينسونه، يشتغلون بالعبادة، ويتفرغون لها بالرغم مما حولهم من الفتن هذا معنى الحديث.

 

 وأيضًا تظهر في الشدائد: أحكام فقهية ما كانت لتبحث لولا هذه الشدائد: مسائل فقهية ما كانت لتخرج لولا هذه الشدائد، ومثال ذلك:\'مسألة التترس\' لو تترس عدو بمسلمين، وهاجم بلدًا مسلمًا، فإذا أراد المسلمون في البلد أن يدافعوا عن مدينتهم، ويرموا على الكفار ربما أصاب ذلك بعض المسلمين الذين أمسك بهم الكفار دروعًا بشرية، فما حكم رمي الكفار وسَيُقتَل من المسلمين من الدروع البشرية؟

 

مسألة عويصة، قتل المسلم كبير عند الله، ولكن ترك الكفار يتقدمون مصيبة أعظم، و لذلك قال شيخ الإسلام بجرأة عظيمة عجيبة، حمله عليها علمه و فقهه العميق الواسع، وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تترسوا بمن عندهم من أسرى المسلمين، وخِيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا، فإنهم يقاتلون، وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم، وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء، ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيدًا، فإنّ المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قتل من المسلمين يكون شهيدًا، ومن قُتل وهو في الباطن لا يستحق القتل لأجل مصلحة الإسلام كان شهيدًا.

 

وهكذا صلاة الطالب والمطلوب إذا كان يهرب والعدو يلحقونه كيف يصلي والمطاردة تستمر ساعات؟ وكذلك بالعكس إذا كان يطارد عدوًا العدو يهرب والمسلم لابد أن يمسك به والمطاردة قد تستمر ساعات؟ يصلي على حسب حاله، ولو إلى غير القبلة، ولو بغير سجود على الأرض، ولو بغير قيام عليها\' صلاة الطالب والمطلوب\'. وهكذا تظهر مرونة الفقه الإسلامي، وشريعة هذا الدين العظيم، واجتهاد علماء المسلمين، وفوائد الشدائد.

 

اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، اللهم انشر رحمتك علينا،وأيد المسلمين بنصر من عندك، وانصر المجاهدين، واحم حوزة الدينº إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير والحمد لله رب العالمين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply