واكتشفت السر يا أبي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد أن أنهت الطالبات كتابة الدرس أقبلت وبيدها ورقة جميلة، وقالت: أريد أن تساعديني في كتابة رسالة لوالدي أضعها مع هدية اشتريتها له. فقلت لها: أمسكي القلم واكتبي:

 

أبي..

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

 

أبي بالرغم أني لم أنسك يوماً، وكيف أنسى ذلك الركن الحنون، أم كيف أنسى أياديك البيضاء بالعطاء؟!

 

أبي.. كيف أنسى غامر فضلك وإحسانك وصلابتك في الحق؟! فأنت شمسي التي تشرق صباحاً فتنشر الدفء والنشاط في بيتنا، لنستقبل يومنا بعزم ونشاط وسعادة، مقبلين على الحياة والأمل يحدونا لاستقبال يوم جديد بعزم وثبات.. وفي المساء أنت قمري المضيء، الذي ينير البيت بتلك الحكم الباهرة التي تتعهدنا بها، فتنقلنا من خميلة إلى خميلة بين الآيات والأحاديث والسير، في حديث عذب تعشقه الآذان، وتصغي له القلوب. وأرشدتنا إلى حياة في الليل هي جنة المؤمن في الدنيا والآخرة، حينما أسرجت ليلنا بتلك الركعات في ظلمة الليل البهيم، وبذلك الصوت العذب حينما ترتل الآيات. وكنت الدفء يشع في جوانحي حينما تلفحني الحياة بتياراتها الباردةº فأتوق إلى لفتة حانية منك تقشع عني غيوم وساوسي، فقربك وعذب حديثك أنس مجالسي، وضحكاتك متانة في جدار بيتي وأمني، قل لي يا أبي.. بل علمني كما كنت تعلمني وتشاطرني تفكيري، علمني كيف أترجم حبي لك؟ بل كيف أعبر لك عن امتناني وفخري بك؟

 

أبي.. حينما تبدو الحياة مواتية، وتسير بي مراكبها إلى شواطئ آمنة، إلى الفضيلة والعفة، أجد أنفاسك إلى جواريº فأنت سر من أسرار نجاحي، فأسير في تلك الطرقات المعشبة، وأحس نظراتك تتابعني، وأظنها نظرات الرضا، هكذا شعرت بهاº لأنني أرى التوفيق يحالفني، وأجدني معها أشق طريقي بثقة وثبات، متحملة تلك التغيرات في سني الحرجة، كما يصفها علماء النفسº لكنني لا أجدها كذلك، بل هي السن التي اكتشفت فيها مدى النعمة العظيمة التي امتن الله بها عليّ أن جعلني ابنة لك، واكتشفت مدى قصور فهمي حينما كنت صغيرة، وكانت بعض توجيهاتك يضيق بها صدريº فتتبادر دموعي، فتتلقاها بيدك الحانية كجوهرة تخشى من وقوعها أرضاً، لكنني الآن أكثر تفهماً لها، وأُكبِر فيك ثباتك وصمودكº لأجل تربية إسلامية تطمح بها لابنتك، بعيداً عن كل المؤثرات الخارجية، حتى أحطتني وإخوتي بستار متين، وكأننا نعيش في جنة من جنات الدنيا، وإذا خرجنا منها فتلك الدروع الواقية التي وفقك الله لصناعتها كانت تقينا (بإذن الله) من صوارف الحياة ومفسداتها، فاختصرت علي طريق التجارب الطويل، الذي قد لا يوصل في النهاية إلى ما نتمنى.

 

أبي.. إن حجابي الذي أفاخر به أحد انتصاراتك، كما أن تسابق إخوتي للصلاة في المسجد لهو نصر عظيم لتلك التربية الجادة التي سعيت لها مبكرا، ووهبتها الكثير من جهدك وأوقاتك وإمكاناتكº فهنيئاً لك ربح تجارتك مع الله، وهل هناك أعظم تجارة من صلاح الولد! فبه قرة العين في الدنيا والرفعة في الآخرة، لله ما بذلت يا أبي.. لا أضاع الله لك جهداً، ولا حرمك نعيم بر أبنائك.

 

لتعلم يا أبي أنني لا زلت أطمع منك في المزيد، ولتعلم أبي أن السر الذي اكتشفته فيك أنك لم تر يوماً أن أحاديثي سمجة أو تافهة، حتى إنك لتجيد الإنصات للصغير الذي بدأ يركّب جملة من ثلاث كلمات، وحتى إنك لتأخذ برأيي في بعض الأمورº مما يشعرني بقيمتي عندك أولاً، واحترامك لطريقة تفكيري ثانياً، فتتقبل آرائي وتناقشني، حتى نصل إلى حل أمثل.

 

أبي.. إنني ألح أحياناً في طلب بعض الأمور ليس لذاتها.. بل لأستمتع بردودك التي تنم عن رحابة صدرك ورجاحة عقلكº إذ تستطيع أن تتفهم رغبات الأولاد والبنات والصغار والكبار، فأصنع ذلك لأتعلم فاعذرني..!

 

أبي.. إن للتربية الجيدة عندك فنونا.. أبي.. تلك الخطوط الرئيسة التي جعلتني وأفراد أسرتنا نشارك في صناعتها، مستلهمين ذلك من مصدر عزتنا وقوتنا، من ديننا الحنيف، جعلت الرؤيا للحياة واضحة، لا أراها بذلك الغبش الذي تجده كثير من الفتياتº فيتقلبن مع المتغيرات، وقد ينتكسن إن لم يجدن يداً خيّرة تمسح دموعهن وترعى ضعفهن، وكلمة حانية تواسيهن، وقلوبا دافئة تشاركهن أفراحهن وأحزانهن، وقد لا يجدن ذلك في بيوتهن فيتعلقن بعدها بمن يمنحهن ذلك.

 

أبي.. أنت ـ لا شك ـ تفهم معنى حديثي، وتدرك بأن قرب الأب من ابنته في هذه السن مصدر أمن لها، وتثبيت لثمرات التربية التي تتلقاها في المنزل، أو على يد الخيّرات من المربيات.

 

حفظك الله يا أبي من كل مكروه.. وأمد في عمرك في طاعته.. ووفقك لغرس الفضائل في أسرتك.. وجعلك مثالاً وقدوة تحتذى للآباء في التربية الإسلامية الجادة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply