ثمرات الأوقات !


 

بسم الله الرحمن الرحيم

رحم الله الوزير يحيى بن هُبيرةº فقد عبّر عن فقه الاستفادة من الوقت أحسن التعبير. فقال:

 

والوقتُ أنفس ما عُنيتَ بحفظه = وأراه أسهلَ مـا عليك يضيعُ!

 

فهو دُرّةٌ نفيسةٌ نادرةٌ لا يمكن للعاقل تضييعها والتفريط فيهاº لأنّ الوقت هو العُمُر، وما العمر ـ لعمري ـ إلا اغتنام الأوقات، ومراعاة الأولويّات في رحلة الحياة: بكل تكاليفها، وواجباتها، ومعاني الوجود فيها! كما قيل:

 

حياتك أنفاسٌ تُعَدّ فكلما = مضى نَفَسٌ منها انتقصتَ به جزءاً!

 

وليت شعري ماذا يبقى من حقيقة الحياة إذا ذهبت لحظاتها أدراج الرياح؟ وضاعت أيامها سُدًىº وما أحسنَ ما عبّر به الشاطبي عن هذا المعنى بقوله:

 

ولو أنّ عينـاً ساعدت لتوكّفت = سحـائبها بالدمع دِيمـاً وهُطَّلا!

ولكنّها عن قسوة القلب قَحطُها = فيا ضيعةَ الأعمارِ تمشي سَبَهللا!(1)

 

وإنّ من أعظم معضلات الإدارة ـ اليومَ ـ في عالمنا الإسلامي إهدارَ الأوقات، وتضييعَ الساعات، وضحالةَ الاستفادة من توالي اللحظات. ولله درّ ابن السمّاك فقد سأله بعض الأمراء العِظَةَº فذكر قول الله - تعالى - (إنما نعُدّ لهم عدّاً)(2)، ثم قال: \"إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مددº فما أسرعَ أن تنفد!\"(3).

 

فأين نحن ـ بربّكم ـ في تنظيم أعمالنا، وتسيير إداراتنا، واستثمار الحدّ الأقصى من أوقاتنا من حديث نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - الآمر باغتنام فراغنا قبل شغلناº فهل تُرانا حفظنا أوقاتنا استجابةً لأمر رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سَقَمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك)(4)؟

 

فكم في مواعيدنا الزمنيّة من خَبالٍ,؟ وكم في جهودنا العلمية من اختزال؟ وكم في أولويّات أعمالنا من اختلال؟ ورحم الله من قال:

 

 

وإذا طلبتَ العلمَ فاعلم أنّه = حِملٌ فأبصِر أيَّ شيءٍ, تحملُ؟

وإذا علمتَ بأنّه متفاضلٌ = فاشغل فؤادك بالذي هو أفضلُ!(5)

 

فمما يُفسد أعمالَنا غلبةُ هَزلِنا على جِدّنا، وكثرةُ اللّهوِ واللّعبِ عندنا، وغفلتُنا عن هموم وظائفنا، وانصرافنا عمّا ينفعنا، واشتغالنا بما يضرّنا ـ لاسيما داء اللَّغو ـ وقد وصف الله - عز وجل - عباده الصالحين بأنّهم (إذا مرٌّوا باللّغو مرٌّوا كِراماً)(6)، وأنهم (عن اللًّغو مُعرِضون)(7)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كلّ الناس يغدو فبائعٌ نفسَهº فمُعتقها، أو مُوبقها)(8).

 

ولا ريب أنّ مِن أشدّ الناس غفلةً من يُبدّد أكرم الأوقات، وأثمن الساعات في المفاسد والتفاهاتº بحيث يجعل النعمة التي وهبها الله له نِقمةً عليه. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: (نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحّة والفراغ)(9). كيف وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مناط الخيريّة في حسن العملº فقال - صلى الله عليه وسلم - (خير الناس من طال عمرهº وحسن عمله)(10). وذلك مصداقاً لقول الله - عز وجل -: (ومَن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين).

 

فمما ينبغي ألا نغفل عنه تعبيرُ القرآنِ عن الحياة بأنها مدّةٌ كافيةٌ للاعتبار. كما قال الله - جل جلاله -: (أَوَ لم نُعمِّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النّذير)(11). قال الحافظ ابن كثير: \"أي أَوَ ما عشتم في الدنيا أعماراً لو كنتم ممن ينتفع بالحقº لانتفعتم به في مدّة عمركم؟\" ونُقل عن قتادة قوله: \"اعلموا أنّ طول العمر حجةٌº فنعوذ بالله أن نُعيَّر بطول العمر\"(12). وروى البخاري في هذا المعنى حديث أبي هريرة (أعذر الله إلى امرئٍ, أخّر أجلهº حتى بلغ ستّين سنة). قال النووي: \"قال العلماء: معناه: لم يترك له عُذراًº إذ أمهله هذه المُدّة\"(13).

 

فهذا الوعي بحقيقة الوقتº هو الذي يُذكي في النفوس جذوة العزم، ويُوقظ القلب على اغتنام مواسم العمر، ويصرف الجوارح إلى العمل الصالح. ولله درّ الإمام مسلم حينما تخلّل كتاب مواقيت الصلاة بقول يحيى بن أبي كثير: (لا يُستطاع العلمُ براحة الجسم)!(14). وما أحسنَ ما ذكره الذهبي عن ابن أبي حاتم أنه اشترى مع صاحبٍ, له سمكةًº فشغلتهما عنها كثرة الدروس التي يأخذانها عن الشيوخº فلم يجدا وقتاً لشوائهاº فأكلاها نيّئةً!(15).

 

وذو العقل يشقى في النعيم بعقلِهِ =وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ!

 

 - - - - -

(1) مقدمة حرز الأماني، للشاطبي.

(2) سورة مريم: 84.

(3) ذكره الصابوني في تفسير سورة مريم من صفوة التفاسير.

(4) رواه الحاكم.

(5) لسان الميزان لابن حجر 3/174.استفدته من (قيمة الزمن عند العلماء. للشيخ عبد الفتاح أبو غدّة. ص 104. دار البشائر. بيروت. ط5).

(6) سورة الفرقان: 72.

(7) سورة المؤمنون: 3.

(8) رواه مسلم.

(9) رواه البخاري.

(10) رواه الترمذي، وأخره النووي في باب المجاهدة من رياض الصالحين.

(11) سورة فاطر: 37.

(12) تفسير ابن كثير 3/731.

(13) رياض الصالحين ص 95.

(14) شرح النووي على مسلم 5/113.

(15) راجع تذكرة الحفاظ للذهبي 3/830.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply