نهوض الشباب بعظَائِم الأمُور (3)


بسم الله الرحمن الرحيم

 
ومن عظماء شباب السلاطين بالمغرب الأقصى إدريس بن إدريس الحسني، فقد أخذت له البيعة بالمغرب الأقصى وعمره إحدى عشرة سنة، فقد نشأ في كفالة مولى أبيه راشد فأقرأه القرآن الكريم وعلمه السنّة، ورواه الشعر وأمثال العرب، وأطلعه على سير الملوك، ودربه على ركوب الخيل والرمي بالسهام، فلم يصل إلى السنة الحادية عشرة حتى ترشح للأمر واستحق أن يبايع وظهر من ذكائه ونبله ما أذهل العامة والخاصة.

صعد المنبر يوم بيعته وخطب، ومما قال في خطبته: ((أيها الناس! إنا قد ولّينا هذا الأمر الذي يضاعف للمحسن فيه الثواب وللمسيء الوزر، ونحن والحمد لله على قصد جميل، فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا فإن ما تطلبونه من إقامة الحق إنما تجدونه عندنا))، وكان عاملاً بكتاب الله قائماً بحدوده، وبذلك استقام له الملك وعظم أمره.

ومن هؤلاء العظماء علي بن محمد بن إدريس، أخذت له البيعة بعد وفاة أبيه، وكان يوم بويع في سن العاشرة من العمر، فظهر ذكاؤه ونبله، وسار بسيرة أبيه وجده في العدل، وإقامة الحق، وقمع الأعداء، وضبط البلاد والثغور، ويقول المؤرخون: كانت أيامه خير أيام.

ومن هؤلاء العظماء علي بن يوسف بن تاشفين، بويع وعمره ثلاث وعشرون سنة، وكان حليماً عادلاً وقوراً آخذاً بالحزم، فضبط الثغور وملك من البلاد ما لم يملكه أبوه من قبله.

ومن عظماء شباب الملوك بالأندلس عبد الرحمن الناصر، تولى الملك غير متجاوز الثانية والعشرين من عمره، درس عبد الرحمن القرآن والسنّة، وأجاد النحو والتاريخ، وبرع في فنون الحرب والفروسية، وزهت في عصره العلوم والزراعة والصناعة وساد الأمن في البلاد، وكان للعلماء في عصره الحرية المطلقة، يواجهونه بالأمر بالمعروف ويتلقى منهم ذلك بصدر رحب.

ومواقف منذر بن سعيد في نصحه له معروفة في التاريخ، وهو الذي خطب على المنبر في بعض المجالس الحافلة منكراً عليه الإسراف في تشييد المباني وزخرفتها، وهو الذي خاطبه في أحد المجالس بقوله:

 

يا باني الزهراء مستغرقاً * أوقـاته فـيها أما تمهل

لـله مـا أحسنها أرونقا * لو لم تكن زهرتها iiتذبل

 

وكان القضاة في عهده على استقلال لا يخشون معه لومة لائم، وكان القاضي ابن بشير يحكم عليه لخصمه، ويتوعده بالاستقالة إذا لم يتمثل ما حكم به عليه.

ومن هؤلاء العظماء أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج أحد ملوك غرناطة، تولى الملك وهو في السادسة من العمر، وكان الغالب على أيامه الهدنة والصلاح والخير، وكان وزيره الأديب الكبير أبو الحسن بن الجياب، ثم توزر له لسان الدين بن الخطيب.

ومن هؤلاء العظماء ابنه محمد بن يوسف بن إسماعيل، بويع له بعد وفاة أبيه يوسف وعمره تسع سنين، وكان وزيره لسان الدين بن الخطيب بعد أن توزر لأبيه من قبله، ووصفه ابن الخطيب فقال: متحل بوقار وسكينة، وسافر عن وسامة يكتنفها جلباب حياء وحشمة، كثير الأناة ظاهر الشفقة، عطوف مخفوض الجناح، مائل إلى الخير بفضل السجية، فأنست العامة بقربه، وسكنت الخاصة إلى طيب نفسه، وحمد الناس فضل عفافه وكلفه بما يعنيه من أمره وكان مع هذه المزايا مثلاً في الفروسية، قال بعض مادحيه:

 إن ألمَّت هيعةٌ * طار إليها غير وان  

 

 يصدع الليل بقلبٍ, * ليس بالقلب الجبان

 

وأختم حديثي هذا بحديث ملوك تقلدوا في أوائل شبابهم ولايات كانوا فيها مظهر اليقظة والحزم، وتولوا الملك بعده، فساروا فيه سيرة عبقري زادته التجارب خبرة بطرق السياسة الرشيدة.

ومن هؤلاء الملوك هشام بن عبد الرحمن الداخل ((مؤسس الدولة الأموية بالأندلس)) فقد كان والده عبد الرحمن يوليه في صباه الأعمال، ويرشحه لولاية الملك، ولما توفي عبد الرحمن تولى هشام الخلافة وعمره ثلاثون سنة، وكان يذهب بسيرته مذهب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -.

ويدخل في نظم هؤلاء الملوك عبد الرحمن بن الحكم الأموي، وكان أبوه الحكم يوليه قيادة الجيوش العظيمة في الأندلس وهو ابن خمس عشرة سنة فيهزم الأعداء ويعود ظافراً.

وأذكر من هذا القبيل تميم بن المعزّ بن باديس، فوض إليه والده المعزّ ولاية المهدية وهو في سن الثالثة والعشرين، وتولى الملك بعده وهو في سن الثانية والثلاثين، وكان حسن السيرة محمود الآثار معظماً لأرباب الفضائل، وقصدته الشعراء من الآفاق، وكان هو نفسه معدوداً من طبقات الأدباء.

ومن شعره:

 

فإما الملك في شرف أوعزٍ, * عليّ التاج في أعلى السرير

وأما الموت بين ظبا العوالي * فـلست بـخالد أبد iiالدهور

 

والغرض من حديثنا عن أولئك الشباب الذين تولوا أموراً جليلة القدر عظيمة الشأن فقاموا بأعبائها خير قيام، أن نستنهض همم أبنائنا للأخذ بأسباب قوة الفكر وسعة الدراية لأول عهد التمييز، ولمواصلة السير في سبيل السيادة بجد وحزم، لكي نراهم وهم في ريعان الشباب قد بلغوا بجودة النظر واستقامة السيرة أن كانوا موضع آمال الأمة، يعملون لسلامتها والاحتفاظ بعزتها.

وواجب على ولي أمر الناشئ أن يشعره بأن بلوغ الفتى المنزلة المحمودة في السيادة وهو في مقتبل العمر، ليس بالأمر المعتذر أو المتعسر، وليس من شك في أن هذا الشعور يريه السيادة قريبة التناول، فيشمر عن ساعد الجد، وسرعان ما يبلغ ذروتها، ومن أدرك السيادة في عنفوان شبابه، فإن مات مات سيداً، وإن عاش إلى زمن الكهولة أو الشيخوخة، كانت سيادته أطول عماداً، وأرفع ذكراً، وأطيب ثمراً.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply