أزمة تربية القيادات... في عصر الشتات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 (( إلى كل داعية إلى لله، إلى كل من انشغل بالتربية والتوجيه، إلى كل صاحب هم غيور...))

 

إن المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته إلى الله - تبارك وتعالى -، وخاصة في العهد المكي والدعوة في بدايتها مع وجود الاضطهاد والتعذيب... تُرى.. كيف كانت تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه؟

لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه تربية راسخة، تربية قوية، تربية صلبة، تثبت عند الأزمات، وتصبر حين المدلهمات، وتعالج المشكلات.

كان يربيهم - صلى الله عليه وسلم - على تقوية الصلة بالله – سبحانه -، والتعلق به، فرباهم على معرفة الله وأنه خالق كل شيء وأن كل شيء في الوجود من خلقه وأن كل آية من آيات الكون تدل على ربوبيته وألوهيته وأن كل هذه المخلوقات تسبح رب الأرض والسماوات: { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } فيستأنس السالك بذلك حين يعلم أنه ليس بمفرده في هذا الطريق المستقيم بل الكون كله يُسبِّح الله، فيقوى إيمانه ويرتبط بخالقه – سبحانه -، كما كان القرآن ينزل بربط هذه الظواهر الكونية باليوم الآخر، فتنصرف قلوب الصحابة إلى الملك العلام، يراقبونه حق المراقبة، ويعبدونه حق العبادة، اقرأ إن شئت قوله - تعالى -: { إذا الشمس كورت } وقوله: { إذا السماء انفطرت }

وقوله - تعالى -: { عم يتساءلون، عن النبأ العظيم..} والآيات في ذلك كثيرة.

كما كان - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه على قيام الليل، يتلذذون بمناجاة الله - سبحانه وتعالى -.

ومع هذه التربية العبادية كان - صلى الله عليه وسلم - يربيهم على الثبات فيأمرهم بالصبر على البلاء، والاحتساب في طريق هذا الدين ولا أدلّ على ذلك من قصة خباب بن الأرت - رضي الله عنه - وهي معروفة مشهورة، بل كان يربيهم بالتوجيه والتحذير والعتاب فما زاد ذلك العتاب في نفوس الصحابة إلا إيمانا وتسليما وتهذيبا، ومع ذلك فقد رباهم على المحبة الخالصة فكانت شدة محبة الله ومحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - تنسيهم مرارة العذاب وألم الضرب والجلد.

ومع كل ذلك فقد أعدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه النفوس التقية النقية للمستقبل أحسن الاستعداد، فمن ذلك قوله - تعالى -: { سيهزم الجمع ويولون الدبر }، وإخباره سراقة بن مالك أنه يملك سواري كسرى، وغير ذلك كثير.

ومع أن الدعوة في ذلك الوقت كانت سرية وكان المسلمون مستضعفين، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربيهم على الصدع بالحق، فكان أن جهر عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بالقرآن.

 

فماذا كان نتاج تلك التربية أيها الأخوة؟!

كان نتاجها أن خرج لنا أمثال مصعب بن عمير.. أول سفير في الإسلام الذي مهّد لدولة الإسلام الأولى، وأمثال خبيب بن عدي الذي قدم نفسه فداء لله ولرسوله بل قال مقولته المشهورة: (( والله ما أرضى أن أكون في أهلي ومالي وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يشاك بشوكة )) بل قال:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشــأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع

وقبل ذلك.. الخلفاء الأربعة الذين هم قادة الأمة، فهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقف عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - موقف الرجل الثابت ويقول: \" من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت \" ويتلو قوله - تعالى -: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل }.

كل هذه النماذج المشرقة صنعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة على عينه، والدعوة ما زالت في بدايتها حتى منّ الله عليه بقيام دولة الإسلام.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه... حين قامت الدولة الإسلامية في المدينة.. هل اكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ربّى تلك الثلة المؤمنة الصابرة القوية الذين صبروا معه على الأذى حتى مكّن الله له؟

هل اكتفى - صلى الله عليه وسلم - بذلك؟؟

لقد بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرحلة جديدة من مراحل الدعوة، مرحلة التوسع والقوة و انتشار الإسلام، ومع وجود أبي بكر وعمر وابن مسعود وحمزة وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - وأرضاهم، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - ربى ذلكم المجتمع المدني تربية لا تقل عما ربى عليه أصحابه في مكة، فها هو - صلى الله عليه وسلم - يربيهم على العلم وطلبه، فيردف معاذاً - رضي الله عنه -, ويعلم ابن عباس - رضي الله عنهما -، كما رباهم بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - على تقديم قول الله ورسوله على قول أي أحد كائنا من كان، مع إبداء المشورة فيما يكون فيه التشاور، فيتحول عن مكانه - صلى الله عليه وسلم - في بدر حتى ينزل أمام البئر كما عرض عليه الحباب بن المنذر - رضي الله عنه - إذ هو الرأي والحرب والمشورة، ثم هو في غزوة الأحزاب يأمر المسلمين بحفر الخندق كما أشار سلمان الفارسي - رضي الله عنه وأرضاه -.

كما رباهم على الإيثار والشجاعة والمحبة والصدق وغير ذلك من خصال الخير.

فكان أن خرج لنا أمثال أنس بن النضر في أُحد، وأمثال سعد بن معاذ حين حكم في بني قريظة بحكم الله من فوق سبع سماوات، وأمثال كعب بن مالك الذي آثر الصدق مع ما يلحقه من عقوبة، على معسول القول الذي يخسر به الآخرة.

لقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يخرج لهذه الأمة قادة يقودون عامة الناس في الأزمات، ويوَجِّهونهم إلى الحق في الملتبسات، ويكشفون زيف الباطل في المشتبِهات.

ولقد أدرك ذلك وفهمه غاية الفهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -.

فلقد حرص على طلب العلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ما زالوا موجودين، لعلمه أن العلماء ورثة الأنبياء وانه سيكون من قيادات هذه الأمة بإذن الله وأنه سيأتي يوم يحتاج الناس فيه لتلك القيادة الراشدة، فكان أن اختاره علي بن أبي طالب لمناقشة الخوارج، ولقد حُق لذلكم الصحابي حين رأى انكباب الناس على ابن عباس - رضي الله عنهما - أن يقول \" لقد كان هذا الفتى أفقه مني \".

هكذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من سلف الأمة ن ممن أدرك هذا الأمر غاية الإدراك، فكان أمثال عمر بن عبد العزيز، وابن المبارك، ثم الإمام أحمد في المحنة، ومن بعدهم أمثال عماد الدين زنكي، والعز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وقطز، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد بن عبد الوهاب - رحمة الله على الجميع -، على مر العصور والأيام ممن تربى على هذا المنهج القويم، وذلك الحق المبين.

لكن حين تخلف هذا الفهم على مستوى الأمة وأهملوه، معتمدين على ركن أجدادهم، وسقف آبائهم واكتفوا بالتنعم في أكنافهم، والاستظلال بظلهم، جاء أعداءهم فخروا عليهم السقُف من تحتهم، وجاءت هزيمتهم من حيث أمنهم، وما سقوط الخلافة العباسية والعثمانية إلا خير شاهد على ذلك.

ونحن في هذا العصر الحاضر الأليم، مع كثرة الفساد واتساعه، وتكالب الشر علينا وانتشاره، وجلبة العدو علينا بخيله ورجله، واستفزاز من استطاع ببوق النفاق بصوته، تتكاتف الجهود، وتتكاثف الحشود من أهل الخير والصلاح، والبر والإصلاح، للسير بالهلكى إلى طريق النجاح، وإنقاذ الغرقى إلى بر الأمان والفلاح، بالأفكار الإصلاحية الهامة، والمشاريع الدعوية العامة، ومع كثرة التائبين المهتدين، والاهتمام بهذه الفئة من قبل الدعاة المصلحين، يضيع بين ثناياهم أهل النبوغ النابهين الجادين. الذين ينتظرون التربية الجادة والتأهيل العلمي والقيادي.حتى يخرجوا للناس وهم علماء ربانيون، وقادة مصلحون، ومجاهدون محًنّكون

 

والســــــــؤال:-

أين من يُخرج لنا من قوافل التائبين... القادة النابغين الذين يأخذون بنا إلى سبيل العز والتمكين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply