العاطفــة والعـدل(2/2)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

  

إن من المعاني المهمة في هذا الموضوع: أن التعامل بين أهل الإسلام يجب أن يكون مركباً من هذين المفهومين – أي العقل والعاطفة- , بقدر من التوازن حسب اقتضاء الشريعة ، وأن ندرك أننا حين نعطي لمفهوم واحد مساحة أكثر من المفترض له في الاعتبار الشرعي ، فهذا يعنى ضرورة أن القدر المزيد لهذا المفهوم مستلب من المفهوم الآخر الذي - حتماً- سيبدو ناقصاً قاصراً عن تأثيره المفترض له . وربما كان من الحقيقة المهمة هنا أن نقول: إن التجاوز والزيادة في أثر مفهوم واحد يعنى حقيقةً تجاوز المفهومين معاً !!
   
نعم، حينما تصرفنا في مقدار مفهوم بالزيادة , والآخر بالنقص º فهنا لم يبق هذا المفهوم أو ذاك تصديق الشريعة وإقراراهاº لأن هذه الشريعة وسط لا إفراط فيها ولا تفريط .وهذا مطرد في سائر المفاهيم التي قصدت الشريعة جمعها واعتبارها .
   
إن من قلة الفقه والاتِّباع ألاّ نستوعب أننا نمتلك عاطفة صحيحة إلا بنوع من التجاوز لحدود العدل ، أو بالعكس لا نشعر بالعدل إلا بنوع من التجاوز لحدود العاطفة التي يفترض أن تشارك في حركة العمل والتعامل بين أهل الإسلام لتخلق أجواء من الرحمة والتسامح بينهم .
   
إن القصور في فهم المنهج الشرعي هو السبب الرئيس في شيوع مثل هذه التصورات التي لا تستوعب تعددية الاعتبار والتأثير أي: كون العمل والتعامل وحتى الرأي يجب أن يقع تحت اعتبار وتأثير مجموعة من المفاهيم الفاضلة , سواء كان مفهوماً عينته الشريعة بالنص , أو كان مفهوماً فطرياً أو عقلياً صحيحاً مما يعلم اعتبار الشريعة له ، وأن هذه المفاهيم المتعددة يجب أن يقدر لكل منها قدره الشرعي .
   
إن سائر المفاهيم التي تستصحب في العمل والتعامل وحتى التفكير التي يقصد منها العبادة والطاعة يجب أن تكون شرعية إما بنص الشريعة ، أو اعتبارها , وقد علم اعتبار الشريعة للفطرة والعقل .
   
والتوازن بين مفهوم العاطفة والعدل أحياناً يواجه مشكلة النفس الإنسانية التي ألهمها خالقها فجورها وتقواها , فليست نفساً تمامية فاضلة من كل وجه ، وهنا فإن آيات كثيرة من كتاب الله تذكِّر بالعدل حينما تكون النفوس مهيأة أكثر لمقام الرحمة والولاء الذي قد ينسي كثيراً من العدل والمحاقَّة أو شيء منها ومن هذا قول الله : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين .. )\"النساء:35\" وقوله : ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )\"الانعام:52\" وتذكر آيات أخرى بالرحمة و الولاء التي هي المكون للعاطفة والمحرك لها حينما تكون النفوس مهيأة أكثر لمقام العدل والمحاقّة الذي قد ينسي كثيراً من الرحمة والولاء أو شيئاً منها ومن هذا قول الله تعالى : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم )\"النور:22\" جاء في الصحيح وغيره أنها نزلت في أبي بكر الصديق لما حلف ألا يعطي مسطح بن أثاثة شيئاً بعد ما بلغه أنه خاض في قولة أهل الإفك في عائشة رضي الله عنها .
   
إن هذا المقام الذي قامه صدِّيق الإسلام غلب عليه حال العدل والمحاقَّة ، مع ما عرف به الصديق من الرحمة والرفق ، وقد كان يُشَبَّه بعيسى بن مريم في هذا المعنى، لكن النفس البشرية لا تتمالك وهكذا خلقها الله ، ولعظم إيمان الصديق اتخذ مقام القصد ولم يظلم، ومع هذا نزل تأديب رب العالمين سبحانه بهذا الخطاب المذكِّر بمقام الرحمة والولاء التي يبعث عليها قوله : ( أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ) إن هذه الأوصاف مؤثرة في النفوس الفاضلة لتتحول إلى العفو والصفح عما هو من حقوقها لو أخذت به ، فكيف تبتعد نفوس كثيرة اليوم عن هذا المقام الفاضل فيما ليس من حقوقها بل في حقوق الإسلام العامة في العلم والعمل .
   
إن هذا الأدب الذي أدب به الله صدِّيق هذه الأمة يجب أن يتخذه كل قاصد للحديث عن دين الله أو الدعوة إليه ، فإن في أهل الإسلام اليوم وقبل اليوم كثيراً من الاختلاف والتفاوت ، والواجب حفظ ذمة المسلمين وحقوقهم وحرمتهم ، وأن يعلم أن كل مسلم ثبت له عقد الإسلام أياً كان شأنه يبقى له قدر من الولاء والمحبة يحفظ له حرمته ، وعلى كل عالم وناظر وداع إلى دين الله أن يفقه شمولية الشريعة ووسطيتها ، وأن نبي هذه الأمة أرسل رحمة للعالمين ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )\"الأنبياء: 107\" وقد كان عليه الصلاة السلام كما في الصحيح من حديث عمران بن حصين ( رحيماً رقيقاً ) وفي حديث مالك بن الحويرث في البخاري وغيره : ( وكان رسول الله رفيقاً بنا ) ، وفي الصحيح من حديث ابن عباس : ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه ) ، إن كثيرين اليوم لا يضرب الناس بين أيديهم لكن تضرب العقول بين أيديهم حين لا يسعهم استيعاب مخالفة من أذنت له الشريعة بقدر من القول والاجتهاد لما هو عليه من مقام الديانة والعلم والفقه .
   
والواجب على كل عالم وناظر وداعٍ, إلى دين الله بل وسائر أهل الإسلام أن يدرؤوا عن أنفسهم ما هو من شر العذاب والبلاء حين يكون أهل الإسلام شيعاً يتسلط بعضهم على بعض وهو المذكور في قوله تعالى : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض .. )\"الأنعام:65\" وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ) قال : ( أعوذ بوجهك ) ، ولما قرأ ( أو من تحت أرجلكم ) قال : ( أعوذ بوجهك ) ، ولما قرأ ( أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض ) قال : ( أعطيت هاتين ولم أعط هذه ) ، وهذا العذاب لا يقع إلا بأيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون .
   
ومعلوم أن هذا البأس الذي يذوقه البعض من البعض في هذه الأمة شيء منه يقع باسم العلم ونصرة مقام الديانة كما أن أهل الكتاب من قبل اتخذوا العلم بغياً بينهم ، وقد نبه على هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية .
   
ولهذا كان من فقه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما قالت الخوارج : ( لا حكم إلا لله ) قال : ( كلمة حق أريد بها باطل ) ، بل ربما وقع بعض الشر من كلمة حق أريد بها حق لكنها لم توافق هدي النبوة وسنة الشريعة ، ولم يتحصل لصاحبها سعة واستعداد للمراجعة والتصحيح .
وصلى الله وسلم على خاتم الرسل .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply